فصل: السَّاْبِعُ: الْوَصِيَّةُ بالكِتَاْبِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***


الثَّالِثُ‏:‏ الإجَاْزَةُ

440‏.‏ ثُمَّ الإِجَازَةُ تَلىِ السَّمَاعَا *** وَنُوّعَتْ لِتِسْعَةٍ أَنْوَاعَا

441‏.‏ أرْفَعُهَا بِحَيْثُ لاَ مُنَاولَهْ *** تَعْيِيْنُهُ الْمُجَازَ وَالْمُجْازَ لَهْ

442‏.‏ وَبَعْضُهُمْ حَكَى اتِّفَاقَهُمْ عَلَى *** جَوَازِ ذَا، وَذَهَبَ ‏(‏الْبَاجِيْ‏)‏ إِلَى

443‏.‏ نَفْي الْخِلاَفِ مُطْلَقَاً، وَهْوَ غَلَطْ *** قال‏:‏ وَالاخْتِلاَفُ فِي الْعَمَلِ قَطْ

444‏.‏ وَرَدَّهُ الشَّيْخُ بأَِنْ للشَّافِعِي *** قَوْلاَنِ فِيْهَا ثُمَّ بَعْضُ تَابِعي

445‏.‏ مَذْهَبِهِ ‏(‏الْقَاضِي حُسَيْنٌ‏)‏ مَنَعَا *** وَصَاحِبُ ‏(‏الْحَاوي‏)‏ بِهِ قَدْ قَطَعَا

446‏.‏ قَالاَ كَشُعْبَةٍ وَلَو جَازَتْ إِذَنْ *** لَبَطَلَتْ رِحْلَةُ طُلاَّبِ السُّنَنْ

447‏.‏ وَعَنْ ‏(‏أبي الشَّيْخِ‏)‏ مَعَ ‏(‏الْحَرْبِيِّ‏)‏ *** إِبْطَالُهَا كَذَاكَ ‏(‏لِلسِّجْزِيِّ‏)‏

448‏.‏ لَكِنْ عَلى جَوَازِهَا اسْتَقَرَّا *** عَمَلُهُمْ، وَالأَكْثَرُوْنَ طُرَّا

449‏.‏ قَالُوا بِهِ، كَذَا وُجُوْبُ الْعَمَلِ *** بِهَا، وَقِيْلَ‏:‏ لاَ كَحُكْمِ الْمُرْسَلِ

القسمُ الثالثُ من أَقسامِ الأَخذِ والتحمُّلِ‏:‏ الإجازةُ‏.‏ وهيَ دونَ السماعِ‏.‏ وهيَ على تسعةِ أنواعٍ‏:‏ النوعُ الأولُ‏:‏ إجازةُ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ‏:‏ كأَنْ يقول‏:‏ أجزتُ لكُم، أو لفلانٍ الفلانيِّ‏:‏- ويصفُهُ بما يميّزُهُ- الكتابَ الفلانيَّ، أو ما اشتملَتْ عليهِ فِهْرِستي، ونحوَ ذلكَ‏.‏ وهذا أرفعُ أنواعِ الإجازةِ المجردةِ عن المناولةِ‏.‏ وسيأتي حُكْمُ المناولةِ مَعَ الإِجازةِ‏.‏ قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ «فهذهِ عندَ بعضهِمِ التي لم يُخْتَلَفْ في جوازهِا، ولا خالفَ فيه أهلُ الظاهرِ، وإِنَّما الخلافُ بينهُم في غيرِ هذا الوجهِ»‏.‏وقالَ القاضي أبو الوليدِ الباجيُّ‏:‏ لا خلافَ في جوازِ الروايةِ بالإجازةِ من سلفِ هذهِ الأمةِ وخَلَفِهَا، وادَّعَى فيها الإجماعَ، ولم يُفَصِّلْ، وذَكَرَ الخلافَ في العملِ بها‏.‏ فقولي‏:‏ ‏(‏قالَ‏)‏، أي‏:‏ الباجيُّ، وما حكاهُ الباجيُّ من الإجماعِ في مُطْلَقِ الإجازةِ غَلَطٌ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ هذا باطلٌ فقدْ خالَفَ في جوازِ الروايةِ بالإجازةِ جماعاتٌ من أهلِ الحديثِ والفقهاءِ والأصوليينَ وذلكَ إِحدَى الروايتينِ عن الشافعيِّ، وقطعَ بإبطالِها القاضي حُسَيْنٌ، والماورديُّ، وبهِ قَطَعَ في كتابهِ ‏"‏ الحاوي ‏"‏ وعزاهُ إلى مذهبِ الشافعيِّ، وقالا جميعاً كما قالَ شُعبةُ‏:‏ لو جازتِ الإجازةُ لبطلتِ الرِّحْلَةُ‏.‏ وَمِمَّنْ قالَ بإبطالِها إبراهيمُ الْحَرْبيُّوأبو الشيخِ عبدُ اللهِ بنُ محمّدٍ الأصبهانيُّ وأبو نصرٍ الوائليُّ السجزيُّ، وأبو طاهرٍ الدَّبَّاسُ من الحنفيةِ، وأبو بكرٍ محمَّدُ بنُ ثابتٍ الخُجَنْدِيُّ من الشافعيةِ، وحكاهُ الآمديُّ، عن أبي حنيفةَ، وأبي يوسُفَ‏.‏ لكنَّ الذي استقرَّ عليه العملُ، وقالَ بهِ جماهيرُ أهلِ العلمِ من أَهْلِ الحديثِ وغيرِهم‏:‏ القولُ بتجويزِ الإجازةِ وإِجازةِ الروايةِ بها، وحكاهُ الآمديُّ عن أصحابِ الشافعيِّ وأكثرِ المحدِّثينَ‏.‏ وكما تجوزُ الروايةُ بالإِجازةِ، كذلكَ يجبُ العملُ بالمرويِّ بها‏.‏ وقالَ بعضُ أهلِ الظاهرِ ومَنْ تَابَعَهُمْ‏:‏ لا يجبُ العملُ بهِ كالحديثِ المرسلِ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وهذا باطلٌ؛ لأَنَّهُ ليس في الإِجازةِ ما يقدحُ في اتِّصَالِ المنقولِ بها وفي الثقةِ بهِ»، واللهُ أَعْلَمُ‏.‏

450‏.‏ وَالثَّانِ‏:‏ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُجَازَ لَهْ *** دُوْنَ الْمُجَازِ، وَهْوَ أَيْضَاً قَبِلَهْ

451‏.‏ جُمْهُوْرُهُمْ رِوَايَةً وَعَمَلاَ *** وَالْخُلْفُ أَقْوَى فِيْهِ مِمَّا قَدْ خَلاَ

النوعُ الثاني منْ أَنواعِ الإِجازةِ‏:‏ أَن يُعَيِّنَ الشخصَ المجُازَ له دونَ الكتابِ المجازِ، فيقول‏:‏ أجزتُ لك جميعَ مسموعاتي، أو جميعَ مرويَّاتي، وما أَشْبَهَ ذلكَ‏.‏ والجمهورُ على تجويزِ الروايةِ بها، وعلى وُجوبِ العملِ بما رُوِيَ بها بشرطِهِ، ولكنَّ الخلافَ في هذا النوعِ أَقوى مِنَ الخلافِ في النوعِ المتُقدِّمِ‏.‏

452‏.‏ وَالثَّالِثُ‏:‏ التَّعْمِيْمُ فِي الْمُجَازِ *** لَهُ، وَقَدْ مَالَ إِلى الْجَوَازِ

453‏.‏ مُطْلَقَاً ‏(‏الْخَطِيْبُ‏)‏ ‏(‏وَابْنُ مَنْدَهْ‏)‏ *** ثُمَّ ‏(‏أبو الْعَلاَءِ‏)‏ أَيْضَاً بَعْدَهْ

454‏.‏ وَجَازَ لِلْمَوْجُوْدِ عِنْدَ ‏(‏الطَّبَرِيْ‏)‏ *** وَالشَّيْخُ لِلإِبْطَالِ مَالَ فَاحْذَرِ

والنوعُ الثالثُ من أنواعِ الإجازةِ‏:‏ أَنْ يَعُمَّ المجُازَ لهُ فلا يُعيِّنُهُ، كأجزْتُ للمسلمينَ، أو لكلِّ أَحدٍ، أو لِمنْ أدْرَكَ زماني، ونحوِ ذلكَ، وقد فعلَهُ أبو عبدِ الله بنُ مَنْدَه، فقالَ‏:‏ أجزتُ لمنْ قالَ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ‏.‏ وجَوَّزهُ أيضاً الخطيبُ وحكى الحازميُّ عَمَّنْ أَدرَكَهُ من الحفَّاظِ كأبي العلاءِ الحسنِ بنِ أحمدِ العطارِ الهمدانيِّ وغيرِهِ‏:‏ أنَّهُم كانوا يميلون إلى الجوازِ‏.‏ وحكى الخطيبُ عن القاضي أبي الطيِّبِ الطبريِّ‏:‏ أَنَّهُ جوَّزَ الإجازةَ لجميعِ المسلمينَ مَنْ كان منهُم موجوداً عند الإِجازةِ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ ولم نَرَ، وَلَم نَسْمَعْ عن أَحدٍ ممَّن يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هذهِ الإجازةَ، فَرَوَى بها، ولا عن الشِرْذِمَةِ المُستأخِرَةِ الذين سوَّغوها‏.‏ والإجازةُ في أَصْلِها ضعيفةٌ وتزدادُ بهذا التوسُّعِ والاسترسالِ ضَعْفَاً كثيراً، لا ينبغي احتمالُهُ‏.‏ قلتُ‏:‏ مِمَّنْ أَجازَها أبو الفضلِ أحمدُ بنُ الحسينِ بنِ خَيْرُونَ البغداديُّ، وأبو الوليدِ بنُ رُشدٍ المالِكيُّ، وأبو طاهرٍ السِّلَفِيُّ، وغيرُهم‏.‏ ورجَّحَهُ أبو عمرِو بنُ الحاجبِ، وصحَّحَهُ النَّوَوِيُّ من زياداتِهِ فِي ‏"‏الرَّوضةِ‏"‏‏.‏ وقد جَمعَ بعضُهم مَنْ أَجَازَ هذهِ الإجازةَ العامّةَ في تصنيفٍ لهُ، جَمَعَ فيه خَلقاً كثيراً رتَّبَهُم على حروفِ المُعْجَمِ؛ لكَثرتِهِم، وهُو الحافظُ أبو جَعْفَرٍ محمدُ بنُ الحسينِ ابنِ أبي البدرِ الكاتبِ البغداديُّ، ومِمَّنْ حَدَّثَ بِهَا مِنَ الحُفَّاظِ‏:‏ أبو بكرِ بنُ خيرٍ الإشبِيليُّ، ومن الحفَّاظِ المتأخرينَ‏:‏ الحافظُ شرفُ الدينِ عبدُ المؤمنِ بنُ خَلَفٍ الدمياطيُّ، بإجازَتِهِ العامةِ من المؤيِّدِ الطوسيِّ‏.‏وسمعَ بِهَاالحفَّاظُ‏:‏ أبو الحجَّاجِ المِزِّيُّ، وأبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ، وأبو محمدٍ البِرْزَاليُّ عَلَى الركْنِ الطَّاوسي بإجازتِهِ العامَّةِ من أبي جعفرٍ الصَّيدلانيِّ وغَيرِهِ‏.‏ وقرأَ بِهَا الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ عَلَى أبي العباسِ بنِ نعمةَ بإجازتهِ العامَّةِ من داودَ بنِ مَعْمَرِ بنِ الفاخرِ‏.‏ وقرأْتُ بِهَا عدَّةَ أجزاءٍ عَلَى الوجيهِ عبدِ الرحمنِ العوفيِّ بإجازتِهِ العامَّةِ من عبدِ اللَّطيفِ بنِ القُبَّيْطِيِّ، وأبي إسحاقَ الكَاشْغَرِيِّ، وابنِ رواجِ، والسِّبْطِ، وآخرينَ من البغداديِّينَ والمصريِّينَ‏.‏ وفي النفسِ من ذَلِكَ شئٌ وأنا أَتوقفُ عن الروايةِ بِهَا، وأهلُ الحديثِ يقولونَ‏:‏ إذا كتبتَ فَقَمِّشْ، وإذا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ‏.‏

455‏.‏ وَمَا يَعُمُّ مَعَ وَصْفِ حَصْرِ *** كَالْعُلَمَا يَوْمَئِذٍ بِالثَّغْرِ

456‏.‏ فَإِنَّهُ إِلى الْجَوَازِ أَقْرَبُ *** قُلْتُ ‏(‏عِيَاضٌ‏)‏ قالَ‏:‏ لَسْتُ أَحْسِبُ

457‏.‏ فِي ذَا اخْتِلاَفَاً بَيْنَهُمْ مِمَّنْ يَرَى *** إِجَازَةً لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرَا

والإجازةُ العامَّةُ إذا قُيِّدَتْ بوصفٍ حاصرٍ، فهي إلى الجوازِ أقربُ‏.‏ قالهُ ابنُ الصلاحِ، وَمثَّلَهُ القاضي عِياضٌ بقولهِ‏:‏ أجزتُ لِمَنْ هوَ الآنَ من طلبةِ العلمِ ببلدِ كذا، أو لِمَنْ قرأَ علَيَّ قبلَ هذَا‏.‏وقالَ‏:‏ فما أَحسَبُهُم اختلفوا في جَوَازِهِ ممَّنْ تَصحُّ عندَهُ الإجازةُ، ولا رأيتُ مَنْعَهُ لأَحدٍ؛لأَنَّهُ محصورٌ موصوفٌ كقولهِ، لأولادِ فلانٍ، أو إخوةِ فلانٍ‏.‏

458‏.‏ وَالرَّابعُ‏:‏ الْجَهْلُ بِمَنْ أُجِيْزَ لَهْ *** أو مَا أُجِيْزَ كَأَجَزْتُ أَزْفَلَهْ

459‏.‏ بَعْضَ سَمَاَعاِتي، كَذَا إِنْ سَمَّى *** كِتَاباً او شَخْصَاً وَقَدْ تَسَمَّى

460‏.‏ بِهِ سِوَاهُ ثُمَّ لَمَّا يَتَّضِحْ *** مُرَادُهُ مِنْ ذَاكَ فَهْوَ لاَ يَصِحْ

461‏.‏ أَمَّا الْمُسَمَّوْنَ مَعَ الْبَيَانِ *** فَلاَ يَضُرُّ الْجَهْلُ بِالأَعْيَانِ

462‏.‏ وَتَنْبَغِي الصِّحَّةُ إِنْ جَمَلَهُمْ *** مِنْ غَيْرِ عَدٍّ وَتَصَفُّحٍ لَهُمْ

والنوعُ الرابعُ من أنواعِ الإِجازةِ‏:‏ الإِجازَةُ للمجهولِ، أو بالمجهولِ‏.‏ فالأولُ كقولهِ‏:‏ أجزتُ لجماعةٍ من الناسِ مسموعاتي‏.‏ والثاني كقولِهِ‏:‏ أجزتُ لَكَ بعضَ مَسْمُوْعَاتي‏.‏ وقد جمعْتُ مثالَ الْجَهْلِ فيهما في مثالٍ واحدٍ، وهو‏:‏ أجزتُ أَزْفَلَةً بعضَ مَسْمُوْعَاتي‏.‏ والأَزْفَلةُ- بفتحِ الهمزةِ وإِسكانِ الزاي وفتحِ الفاءِ-‏:‏ الجماعةُ مِنَ الناسِ‏.‏ ومنه‏:‏ أَنَّ عائِشةَ رضيَ اللهُ عنها أَرسلَتْ إلى أَزْفَلَةٍ من الناسِ، وذلك في قِصَّةِ خُطبةِ عائشةَ في فضلِ أبيهَا‏.‏ ومِنْ أَمثلةِ هذا النوعِ‏:‏ أَنْ يُسَمِّيَ شخصاً، وقد تَسَمَّى به غيرُ واحدٍ في ذلكَ الوقتِ كأجزتُ لمحمدِ بنِ خالدٍ الدِّمَشْقيِّ- مثلاً- ويُسَمِّي كتاباً، كنحوِ‏:‏ أجزتُ لك أَنْ تَرويَ عَنِّي كتابَ السننِ وهُو يروي عدةً من السننِ المعروفةِ بذلك، ولم يَتِّضحْ مرادُهُ في المسألتينِ، فإِنَّ هذهِ الإجازةَ غيرُ صحيحةٍ‏.‏ أَمَّا إذا اتَّضَحَ مرادُه بقرينةٍ بأَنْ قيلَ لهُ‏:‏ أجزتَ لمحمَّدِ بنِ خالدِ بنِ عليِّ بنِ محمودٍ الدمشقيِّ- مثلاً- فحيثُ لا يلتبسُ فقالَ‏:‏ أجزتُ لمحمدِ بنِ خالدٍ الدِّمَشْقِيِّ، أو قِيْلَ لَهُ‏:‏ أجزْتَ لي روايةَ كتابِ السننِ لأبي داودَ- مثلاً- فقالَ‏:‏ أجزتُ لكَ روايةَ السُّننِ‏.‏ فالظاهرُ صحَّةُ هذهِ الإجازةِ، وأَنَّ الجوابَ خَرَجَ عَلَى الْمَسْؤُوْلِ عنهُ‏.‏ وكذلكَ إذا سُمِّيَ للشَّيخِ المسؤولِ منهُ المجَازَ لهُ معَ البيانِ المزيلِ للاشتباهِ، ولكنَّ الشيخَ لا يعرفُ المسؤولَ لهُ بلْ يجهلُ عينَهُ، فلا يَضُرُّ ذلكَ، والإجازةُ صحيحةٌ‏.‏ كما لا يُشترَطُ معرفَةُ الشيخِ بِمَنْ سمعَ من الشَّيخِ، وإذا سُئِلَ الشيخُ الإجازةَ لجمَاعةٍ مُسمَّيْنَ مع البيانِ في استدعاءِ كما جرتْ بهِ العادةُ فأجازَ لهم مِنْ غيرِ معرفةٍ بهم، ولم يَعْرِفْ عددَهم ولا تصفَّحَ أسماءَهُم واحداً واحداً‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ فينبغي أَنْ يَصحَّ ذلكَ أيضاً كما يصحُّ سماعُ مَنْ سمعَ منهُ على هذا الوصفِ‏.‏

463‏.‏ وَالْخَامِسُ‏:‏ التَّعْلِيْقُ فِي الإِجَازَهْ *** بِمَنْ يَشَاؤُهَا الذَّيِ أَجَازَهْ

464‏.‏ أو غَيْرُهُ مُعَيَّنَاً، وَالأُولَى *** أَكْثَرُ جَهْلاً، وَأَجَازَ الْكُلاَّ

465‏.‏ مَعَاً ‏(‏أبو يَعْلَى‏)‏ الإِمَامُ الْحَنْبَلِيْ *** مَعَ ‏(‏ابْنِ عُمْرُوْسٍ‏)‏ وَقَالاَ‏:‏ يَنْجَلِي

466‏.‏ الْجَهْلُ إِذْ يَشَاؤُهَا، وَالظَّاهِرُ *** بُطْلاَنُهَا أَفْتَى بِذَاك ‏(‏طَاهِرُ‏)‏

467‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وَجَدْتُ ‏(‏ابنَ أبي خَيْثَمَةِ‏)‏ *** أَجَازَ كَالَّثانِيَةِ الْمُبْهَمَةِ

468‏.‏ وَإِنْ يَقُلْ‏:‏ مَنْ شَاءَ يَرْوِي قَرُبَا *** وَنَحْوَهُ ‏(‏الأَزْدِي‏)‏ مُجِيْزَاً كَتَبَا

469‏.‏ أَمَّا‏:‏ أَجَزْتُ لِفُلاَنٍ إِنْ يُرِدْ *** فَالأَظْهَرُ الأَقْوَى الْجَوَازُ فَاعْتَمِدْ

النوعُ الخامسُ من أنواعِ الإجازةِ‏:‏ الإجازةُ المعُلَّقةُ بالمَشِيئةِ‏.‏

ولم يُفردْ ابنُ الصلاحِ هذا بنوعٍ وأدخلَهُ في النوعِ قبلَهُ، وقال‏:‏ فيهِ جهالةٌ وتعليقٌ بشرطٍ‏.‏ وأفردتُهُ بنوعٍ، لأَنَّ بعضَ الأجائِزِ المعلَّقةِ لا جهالةَ فيها كما ستقفُ عليهِ هنا؛ وذلك لأَنَّ التعليقَ قد يكونُ مع إِبهام المُجَازِ، أو مع تعيينِهِ، وقد يُعَلَّقُ بمشيئةِ المُجازِ، وقد يُعَلَّقُ بمشيئةِ غيرِه مُعَّيناً، وقد يكونُ التعليقُ لنفسِ الإجازةِ، وقد يكونُ للروايةِ بالإجازةِ‏.‏ فأمَّا تعليقُها بمشيئةِ المجازِ مبهماً، كقولهِ‏:‏ مَنْ شاءَ أَنْ أُجِيزَ له فقدْ أَجزتُ له، أَو أَجزتُ لمنْ شاءَ فهو كتعليقِها بمشيئةِ غيرِه، وسيأتي حكمُهُ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ بلْ هَذِهِ أكثرُ جهالةً وانتشاراً من حيثُ إنَّها معلقةٌ بمشيئةِ من لا يُحَصرُ عددُهم بخلافِ تعليقِها بمشيئةِ معيَّنٍ‏.‏ وأما تعليقُها بمشيئةِ غيرِ المجازِ‏:‏ فإِنْ كان المُعَلَّقُ بمشيئتِهِ مبهماً فهذهِ باطلةٌ قطعاً، كقولهِ‏:‏ أَجَزْتُ لِمَنْ شاءَ بعضُ الناسِ أَنْ يرويَ عنِّي، وإِنَ كانَ مُعَّيناً، كقولهِ‏:‏ مَنْ شاء فلانٌ أَنْ أُجيزَهُ فقد أجزتُهُ، أو أجزتُ لِمَنْ يشاءُ فلانٌ ونحوُ ذلك؛ فقد حكى الخطيبُ في جزءٍ لهُ في «الإجازةِ للمعدومِ والمجهولِ» عن أبي يعلى محمدِ بنِ الحسينِ بنِ الفراءِ الحنبليِّ وأبي الفَضْلِ محمّدِ بنِ عُبيدِ اللهِ بنِ عُمْرُوسٍ‏:‏ أنَّهُمَا أَجازَا ذلكَ واستُدِلَّ لهما بأنَّ هذهِ الجهالةَ ترتفعُ عندَ وجودِ المشيئةِ، ويتعَيَّنُ المُجَازُ لهُ عندَها‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ والظاهرُ أَنَّه لا يصحُّ وبذلكَ أفتى القاضي أبو الطيبِ طاهرُ بنُ عبدِ اللهِ الطبريُّ إِذْ سألهُ الخطيبُ عن ذلكَ وَعَلَّلَهُ‏:‏ بأَنَّهُ إجازةٌ لمجهولٍ، كقولهِ‏:‏ أجزتُ لبعضِ الناسِ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وقد يُعَلَّلُ أيضاً بما فيهِ مِنَ التَّعليقِ بالشرطِ فَإِنَّ ما يَفْسُدُ بالجهالةِ يَفْسُدُ بالتعليقِ عندَ قومٍ‏.‏ قلتُ‏:‏ وقد وجدْتُ عن جماعةٍ من أئمةِ الحدِيثِ المتقدِّمِينَ والمتأخِّرِينَ استعمالَ هذا‏.‏ فمِنَ المتقدِّمِينَ‏:‏ الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ ابنُ أبي خَيْثَمَةَ زُهيرِ بنِ حَرْبٍ صاحبِ يحيى بنِ معينٍ، وصاحبِ ‏"‏ التاريخِ ‏"‏‏.‏ قالَ الإمامُ أبو الحسنِ محمَّدُ ابنُ أبي الحسينِ بنِ الوزَّانِ‏:‏ أَلْفَيْتُ بخطِ أبي بكرِ ابنِ أبي خيثمةَ‏:‏ قد أَجَزْتُ لأبي زكريا يحيى بنِ مَسْلَمةَ أَنْ يرويَ عَنِّي ما أَحبَّ من كتابِ ‏"‏ التاريخِ ‏"‏ الذي سمعَهُ مِنِّي أبو محمَّدٍ القاسمُ ابنُ الأصبَغِ، ومحمدُ بنُ عبدِ الأعلى، كما سمعاهُ مِنِّي‏.‏ وأذنتُ له في ذلكَ ولِمَنْ أحبَّ من أصحابهِ فإن أحبَّ أَنْ تكونَ الإجازةُ لأحدٍ بعدَ هذا فأنا أجزتُ له ذلك بكتابي هذا وكَتَبَ أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي خيثمةَ بيدِهِ في شَوَّالٍ منْ سنةِ ستٍّ وسبعينَ ومائتينِ‏.‏ وكذلكَ أجازَ حفيدُ يعقوبَ بنِ شيبةَ، وهذه نسختُها- فيما حكاهُ الخطيبُ- يقولُ محمدُ بنُ أحمدَ بنِ يعقوبَ بنِ شيبةَ‏:‏ قد أجزتُ لعمرَ بنِ أحمدَ الخلاَّلِ وابنِهِ عبدِ الرحمن بنِ عُمَرَ وَلِخَتَنِهِ عليِّ بنِ الحسنِ جميعَ ما فاتَهُ من حَدِيْثِي، مِمَّا لَمْ يُدْرِكْ سماعَهُ من المُسْنَدِ وغيرِهِ، وقد أجزتُ ذلكَ لِمَنْ أَحَبَّ عمرُ فلْيَرْوُوهُ عَنِّي إِنْ شَاؤُوا‏.‏ وكَتَبْتُ لهم ذلكَ بخطِّي في صَفَرٍ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وثلاثينَ وثلاثمائةٍ‏.‏ قالَ الخطيبُ بعدَ حكايةِ هذا‏:‏ ورأيتُ مثلَ هذهِ الإجازةِ لبعضِ المتقدمينَ، إلاَّ أَنَّ اسمَهُ ذهبَ من حفظِي‏.‏ انتهى‏.‏ وكأَنَّه أرادَ بذلكَ ابنَ أبي خيثمةَ، واللهُ أعلمُ‏.‏ وأمَّا إذا كانَ الْمُعَلَّقُ هُوَ الروايةَ كقولهِ‏:‏ أجزتُ لمنْ شاءَ الروايةَ عنِّي، أَنْ يرويَ عنِّي، فقالَ ابنُ الصَّلاحِ‏:‏ هذا أَولى بالجوازِ من حيثُ إِنَّ مُقْتَضَى كُلِّ إِجازةٍ تفويضُ الروايةِ بها إلى مشيئةِ المجُازِ لَهُ، فكانَ هذا مَعَ كونِهِ بصيغةِ التعليقِ تصريحاً بما يقتضيهِ الإطلاقُ، وحكايةً للحالِ، لا تعليقاً في الحقيقةِ‏.‏ قالَ‏:‏ ولهذا أجازَ بعضُ أَئِمَّةِ الشَّافعيِّيْنَ في البيعِ أن يَقُوْلَ‏:‏ بِعْتُكَ هذا بكذا إِن شئتَ، فيقولُ‏:‏ قَبِلْتُ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ الفَرْقُ بَيْنَهُمَا تَعْيِيْنُ الْمُبتاعِ هنا، بخلافِهِ في الإجازةِ، فإنَّهُ مُبْهَمٌ‏.‏ نَعَمْ‏.‏‏.‏ وِزَانُهُ في الإجازةِ أَنْ يقولَ‏:‏ أجزتُ لك أَنْ ترويَ عَنِّي إِنْ شئتَ الروايةَ عنِّي‏.‏ وأمَّا المثالُ الذي ذكرهُ فالتعليقُ وإِنْ لم يَضُرَّهُ فالجهالةُ مُبطِلةٌ لَهُ‏.‏ وكذلكَ ما وُجِدَ بخطِ أبي الفتحِ الأَزْدِيِّ‏:‏ أجزتُ روايةَ ذلكَ لجميعِ مَنْ أَحبَّ أَنْ يرويَ ذلكَ عنِّي‏.‏ وأمَّا تعليقُ الروايةِ مَعَ التصريحِ بالمجُازِ لَه وتعيينِهِ، كقولِهِ‏:‏ أجزتُ لكَ كذا وكذا إِنْ شئتَ روايتَهُ عَنِّي، أو أَجَزْتُ لكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ ترويَ عَنِّي، أو أجزْتُ لفلانٍ إِنْ شَاْءَ الروايةَ عَنِّي، ونحوَ ذلكَ؛ فالأظهرُ الأقوى أَنَّ ذلك جائزٌ إذْ قد انتفتْ فيه الجَهالةُ، وحقيقةُ التعليقِ، وَلَمْ يَبْقَ سوى صِيغتِهِ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏إنْ يرد‏)‏، أي‏:‏ إنْ يُرِدِ الروايةَ يَدُلُّ عليهِ قولي في البيتِ قبلَهُ‏:‏ ‏(‏مَنْ شاءَ يَرْوِي‏)‏، ويجوزُ أنْ يُرَادَ الأمرانِ معاً، أي‏:‏ إِنْ أرادَ الروايةَ، أو الإجازة‏.‏ والظاهرُ‏:‏ أنَّهُ لا فرقَ وإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ ابنُ الصَّلاحِ بتعليقِ الإِجازةِ في الْمُعَيَّنِ فتعليلُهُ وبعضُ أمثلتِهِ يقتضي الصحَّةَ فيه لعمومِهِ‏.‏

470‏.‏ وَالسَّادِسُ‏:‏ الإِذْنُ لِمَعْدُوْمٍ تَبَعْ *** كَقَوْلِهِ‏:‏ أَجَزْتُ لِفُلاَنِ مَعْ

471‏.‏ أَوْلاَدِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهْ *** حَيْثُ أَتَوْا أَوْ خَصَّصَ الْمَعْدُوْمَ بِهْ

472‏.‏ وَهْوَ أَوْهَى، وَأَجَازَ الأَوَّلاَ *** ‏(‏ابْنُ أبي دَاوُدَ‏)‏ وَهْوَ مُثِّلاَ

473‏.‏ بِالْوَقْفِ، لَكِن ‏(‏أَبَا الطَّيِّبِ‏)‏ رَدْ *** كِلَيْهِمَا وَهْوَ الصَّحِيْحُ الْمُعْتَمَدْ

474‏.‏ كَذَا أبو نَصْرٍ‏.‏ وَجَازَ مُطْلَقَا *** عِنْدَ الْخَطِيْبِ وَبِهِ قَدْ سُبِقَا

475‏.‏ مِنِ ابْنِ عُمْرُوْسٍ مَعَ الْفَرَّاءِ *** وَقَدْ رَأَى الْحُكْمَ عَلى اسْتِوَاءِ

476‏.‏ فِي الْوَقْفِ في صِحَّتِهِ مَنْ تَبِعَا *** أَبَا حَنِيْفَةَ وَمالِكاً مَعَا

والنوعُ السادسُ من أنواعِ الإِجازة‏:‏ الإِجازةُ للمعدومِ، وهي على قسمينِ‏:‏

الأولُ‏:‏ أَنْ يَعْطِفَ المعدومَ على الموجودِ، كقولهِ‏:‏ أجزتُ لفلانٍ ولولدهِ وعَقِبهِ ما تَنَاسَلُوا، أو أجزتُ لكَ ولمنْ يولدُ لكَ، ونحوِ ذلكَ‏.‏ وقد فعلَهُ أبو بكرٍ عبدُ الله ابنُ أبي داودَ السجستانيُّ، وقد سُئِلَ الإجازةَ، فقالَ‏:‏ قَدْ أجزتُ لكَ ولأولادكَ ولِحَبَلِ الْحَبَلةِ، يعني‏:‏ الذينَ لَمْ يُوْلَدُوا بَعْدُ‏.‏

والقسمُ الثاني‏:‏ أَنْ يُخصِّصَ المعدومَ بالإجازةِ من غَيْرِ عَطْفٍ على موجودٍ، كقولهِ‏:‏ أجزتُ لمنْ يُولدُ لفلانٍ، وهو أضعفُ من القسمِ الأولِ والأولُ أَقربُ إلى الجوازِ، وقد شُبِّهَ بالوقفِ على المعدومِ‏.‏ وقد أجازهُ أصحابُ الشافعيِّ في القسمِ الأولِ دونَ الثاني، وحَكَى الخطيبُ عن القاضي أبي الطيبِ الطبريِّ‏:‏ أَنَّهُ منعَ صِحَّةَ الإجازةِ للمعدومِ مطلقاً، قالَ‏:‏ وقدْ كانَ قالَ لي قديماً‏:‏ إِنَّه يَصحُّ‏.‏ وحكى ابنُ الصلاحِ عن أبي نَصْرِ بنِ الصَّبَّاغِ‏:‏ أنَّهُ بَيَّنَ بُطلانَها، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وذلكَ هوَ الصحيحُ الذي لا ينبغي غيرُهُ؛ لأَنَّ الإِجازةَ في حُكمِ الإِخبارِ جملةً بالمُجازِ، فكما لا يصحُّ الإخبارُ للمعدومِ، لا تصحُ الإِجازةُ لهُ‏.‏ وأَجازَ الخطيبُالإجازةَ للمعدومِ مطلقاً، وحَكَاهُ عن أبي يعلى بنِ الفَرَّاءِ وأبي الفَضْلِ بنِ عُمْرُوْسٍ، وقالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ‏:‏ أجازهُ معظَمُ الشُّيُوْخِ المتأخِّرِينَ‏.‏ قالَ‏:‏ وبهذَا اسْتَمَرَّ عَمَلُهُمْ بَعدُ شرقاً وغرباً‏.‏ انتهى وحَكَى الخطيبُ‏:‏ أَنَّ أصحابَ أبي حنيفةَ ومالكٍ، قَدْ أَجَازُوا الوَقْفَ عَلَى المعدومِ، وإِنْ لَمْ يكنْ أصلُهُ موجوداً حالَ الإيقافِ، مثلَ أَنْ يقولَ‏:‏ وقفتُ هَذَا عَلَى مَنْ يُولد لفلانٍ وإِن لَمْ يَكُنْ وَقَفَهُ عَلَى فلانٍ‏.‏

477‏.‏ وَالسَّاِبعُ‏:‏ الإِذْنُ لِغَيْرِ أَهْلِ *** لِلأَخْذِ عَنْهُ كَافِرٍ أو طِفْلِ

478‏.‏ غَيْرِ مُمَيِزٍ وَذَا الأَخِيْرُ *** رَأَى ‏(‏أَبُو الطَّيِّبِ‏)‏ وَالْجُمْهُوْرُ

479‏.‏ وَلَمْ أَجِدْ فِي كَافِرٍ نَقْلاً، *** بَلَى بِحَضْرَةِ ‏(‏الْمِزِّيِّ‏)‏ تَتْرَا فُعِلا

480‏.‏ وَلَمْ أَجِدْ فِي الْحَمْلِ أَيْضَاً نَقْلاَ *** وَهْوَ مِنَ الْمَعْدُوْمِ أولَى فِعْلاَ

481‏.‏ وَ ‏(‏لِلْخَطِيْبِ‏)‏ لَمْ أَجِدْ مَنْ فَعَلَهْ *** قُلْتُ‏:‏ رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ قَدْ سَأَلَهْ

482‏.‏ مَعْ أبويْهِ فَأَجَازَ، وَلَعَلْ *** مَا اصَّفَّحَ الأَسماءَ فِيْهَا إِذْ فَعَلْ

483‏.‏ وَيَنْبَغِي الْبِنَا عَلى مَا ذَكَرُوْا *** هَلْ يُعْلَمُ الْحَمْلُ‏؟‏ وَهَذَا أَظْهَرُ

والنوعُ السابعُ من أنواعِ الإجازةِ‏:‏ الإجازةُ لمنْ ليسَ بأهلٍ حِيْنَ الإجازةِ للأَدَاءِ والأخذِ عنهُ

وذلكَ يشملُ صُوراً لَمْ يذكرِ ابنُ الصلاحِ مِنْهَا إلاَّ الصبيَّ، وَلَمْ يُفْرِدْهُ بنوعٍ، بلْ ذَكَرَهُ في آخرِ الكلامِ عَلَى الإجازةِ للمعدومِ، وزدتُ عليهِ في النَّظْمِ الإجازةَ للكافرِ‏.‏ فأمَّا الإجازةُ للصبيِّ فَلاَ يخلوا إِمَّا أنْ يكونَ مُمَيَّزَاً أو لا، فإنْ كَانَ مُمَيِّزاً فالإجازةُ لَهُ صحيحةٌ كسماعهِ، وإن تَقَدَّمَ نقلُ خلافٍ ضعيفٍ في صحةِ سماعهِ فإنَّهُ لا يُعْتَدُّ بهِ‏.‏ وإنْ كَانَ غيرَ مُمَيِّزٍ، فاختُلِفَ فيهِ‏.‏ فَحَكَى الخطيبُ‏:‏ أنَّ بعضَ أصحابِنَا قالَ‏:‏ لا تصحُّ الإجازةُ لمنْ لا يصحُّ السماعُ لهُ‏.‏ قالَ‏:‏ وسألتُ القاضيَ أبا الطيبِ الطبريَّ، هلْ يُعتبرُ في صِحَّتِهَا سِنُّهُ أو تمييزُهُ كَمَا يعتبرُ ذلكَ في صحَّةِ سماعِهِ‏؟‏ فقالَ‏:‏ لا يُعتبرُ ذلكَ‏.‏ فذكرَ له الخطيبُ قولَ بعضِ أصحابِنا المتقدّمِ فقالَ‏:‏ يصحُّ أَنْ يُجيزَ للغائبِ ولا يصحُّ سماعُهُ‏.‏ قالَ الخطيبُ‏:‏ وعلى هذا رأينا كافةَ شيوخِنا يجيزونَ للأطفالِ الغُيَّبِ عنهم مِن غيرِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مَبْلَغِ أسْنَانِهِم، وحَالِ تمييزِهِم‏.‏ واحْتَجَّ لذلكَ بأَنَّ الإجازةَ إنَّما هيَ إباحةُ المجيزِ للمُجَازِ لهُ، أَنْ يرويَ عنهُ، والإبَاحةُ تصحُّ للعاقلِ، وغيرِ العاقلِ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وكأَنَّهُم رَأَوا الطِّفْلَ أهْلاً لتحمُّلِ هذا النوعِ ليؤدِّيَ بهِ بعدَ حصولِ أَهليتهِ لبقاءِ الإسنادِ‏.‏ وأمَّا الإجازةُ للكافرِ فلم أجدْ فيها نَقْلاً، وقد تَقَدَّمَ أَنَّ سماعَهُ صحيحٌ ولم أَجدْ عن أَحدٍ من المتقدِّمِيْنَ والمتأخِّرِينَ الإجازةَ للكافرِ، إلاَّ أنَّ شخصاً من الأَطباءِ بدمشقَ ممن رأيتُهُ بدمشقَ ولم أسمعْ عليهِ، يُقالُ لهُ محمَّدُ بنُ عبدِ السيدِ بنِ الدَّيَّانِ، سَمِعَ الحديثَ في حالِ يهوديتِهِ على أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ عبدِ المؤمنِ الصوريِّ، وكتبَ اسمهُ في طبقةِ السماعِ معَ السامعينَ وأَجازَ ابنُ عبدِ المؤمن لمنْ سمعَ وهوَ من جملتهِم‏.‏ وكَاْنَ السماعُ والإجازةُ بحضورِ الحافظِ أبي الحجاجِ يوسف بنِ عبدِ الرحمنِ المِزِّيِّ، وبعضُ السماعِ بقراءتهِ وذلكَ في غيرِ ما جزءٍ منها‏:‏ ‏"‏جزءُ ابنِ عترةَ‏"‏ فلولاَ أنَّ المِزِّيَّ يرى جوازَ ذلكَ ما أَقرَّ عليهِ‏.‏ ثُمَّ هَدَى اللهُ ابنَ عبدِ السيدِ المذكورِ للإِسلامِ وحَدَّثَ وسَمِعَ منهُ أصحابُنا‏.‏ ومن صُوَرِ الإجازةِ لغيِر أهلِ الأداءِ الإجازةُ للمَجْنُونِ، وهيَ صحيحةٌ وقد تقدَّمَ ذكرُها في كلامِ الخطيبِ‏.‏ ومِنْ صُوَرِها الإجازةُ للفاسقِ والمبتدعِ، والظاهرُ جوازُها، وأولَى من الكافرِ، فإذا زالَ المانعُ من الأَداءِ صحَّ الأداءُ، كالسماعِ سواءٌ‏.‏ وأمَّا الإجازةُ للحَمْلِ فلَمْ أَجدْ فيها أيضاً نَقْلاً غيرَ أنَّ الخطيبَ قالَ‏:‏ لَمْ أَرَهُم أجازُوا لمنْ لَمْ يكنْ مولوداً في الحالِ، ولم يَتَعَرَّضْ؛ لكونهِ إذا وقعَ تصحُّ أو لا‏؟‏ ولا شكَّ أَنَّهُ أولى بالصِّحَّةِ مِنَ المعدومِ‏.‏ والخطيبُ يرى صحتَها للمعدومِ- كما تقدَّمَ- وقدْ رأيتُ بعضَ شيوخِنَا المتأخِّرِينَ سُئِلَ الإجازةَ لِحَمْلٍ بعدَ ذِكْرِ أبويهِ قبلَهُ وجماعةٍ معهُم، فأجازَ فيها، وهوَ الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ‏.‏ ورأيتُ بعضَ أهلِ الحديثِ قدْ احترزَ عنِ الإجازةِ لهُ، بلْ عَمَّنْ لَمْ يُسمَّ في الإجازةِ، وإِنْ كانَ موجوداً، فكتبَ‏:‏ أجزْتُ للمسمِّيْنَ فيهِ، وهوَ المحدِّثُ الثقةُ أبو الثناءِ محمودُ بنُ خَلَفٍ المنبجيُّ‏.‏ ومَنْ عَمَّمَ الإجازَةَ للحَمْلِ وغيرِهِ أَعْلَمُ وأَحفظُ وأَتقنُ‏.‏ إلا أنهُ قد يُقالُ‏:‏ لعلَّهُ ما اصَّفَّحَ أسماءَ الإجازةِ حتى يَعلمَ هلْ فيها حملٌ أم لا‏؟‏ فقدْ تقدَّمَ أَنَّ الإجازةَ تصحُّ وإِنْ لَمْ يَتَصَفَّحِ الشيخُ الْمُجيزُ أسماءَ الجماعةِ المسؤولِ لَهُمْ الإجازةَ‏.‏ إلاَّ أَنَّ الغالبَ أَنَّ أَهْلَ الحديثِ لا يُجيزونَ إلاَّ بعدَ نَظَرِ المسؤولِ لَهُمْ، كَمَا شاهدناهُ مِنْهُمْ‏.‏ قلتُ‏:‏ وينبغي بناءُ الحكمِ في الإجازةِ للحملِ عَلَى الخلافِ في أَنَّ الحَمْلَ هلْ يُعْلَمُ أو لا‏؟‏ فإِن قلنا‏:‏ إِنَّه لا يُعلمُ، فتكونُ كالإجازَةِ للمعدومِ ويجري فيهِ الخلافُ وإِن قُلنا‏:‏ إِنَّهُ يُعْلَمُ- وهو الأَصَحُّ كما صحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ- صَحَّتِ الإجازةُ‏.‏ ومعنى قولهِم‏:‏ إِنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ، أي‏:‏ يُعامَلُ مُعامَلةَ المعلومِ وإِلاَّ فقدْ قالَ إِمامُ الحرمينِ‏:‏ لا خلافَ أَنَّهُ لا يُعلمُ وقد جزمَ بهِ الرافعيُّ بعد هذا بنحوِ صفحةٍ في أثناءِ فَرقٍ ذَكَرَهُ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏وَهَذَا أَظْهَرُ‏)‏، أي‏:‏ في أَنَّ الحملَ يُعْلمُ، وفي بناءِ الإجازةِ للحملِ على هذا الخلافِ، ففيهِ ترجيحٌ للأَمرينِ معاً‏.‏

484‏.‏ وَالثَّامِنُ‏:‏ الإِذْنُ بِمَا سَيَحْمِلُهْ *** الشَّيْخُ، وَالصَّحِيْحُ أَنَّا نُبْطِلُهْ

485‏.‏ وبعضُ عَصْرِيِّ عِيَاضٍ بَذَلَهْ *** وَ‏(‏ابْنُ مُغِيْثٍ‏)‏ لَمْ يُجِبْ مَنْ سَأَلَهْ

486‏.‏ وَإِنْ يَقُلْ‏:‏ أَجَزْتُهُ مَا صَحَّ لَهْ *** أو سَيَصِحُّ، فَصَحِيْحٌ عَمِلَهْ

487‏.‏ ‏(‏الدَّارَقُطْنِيْ‏)‏ وَسِواهُ أوحَذَفْ *** يَصِحُّ جَازَ الكُلُّ حَيْثُمَا عَرَفْ

والنوعُ الثامنُ من أنواعِ الإجازةِ‏:‏ إجازةُ ما سَيَحْمِلُهُ المجُيزُ ممَّا لم يسمعْهُ قبلَ ذلكَ، ولم يتحمَّلْهُ، لِيَرْوِيَهُ الْمُجَازُ لهُ بعدَ أَنْ يتحمَّلَهُ المجُيزُ، قالَ القاضي عياضٌ في ‏"‏الإلماع‏"‏‏:‏ «فهذا لم أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ فيهِ من المشايخِ»، قالَ‏:‏ «ورأيتُ بعضَ المتأخِّرينَ والعَصْرِيينَ يَصْنَعُونَهُ، إلاَّ أَنِّي قرأتُ في فهرسةِ أبي مروانَ عبدِ الملكِ بنِ زيادةِ اللهِ الطُّبْنيِّ، قالَ‏:‏ كنتُ عندَ القاضي بقُرْطُبَةَ أبي الوليدِ يونسَ بنِ مُغيثٍ، فجاءَهُ إنسانٌ فسأَلَهُ الإجازةَ لهُ بجميعِ ما رواهُ إلى تاريخِها، وما يرويهِ بَعْدُ، فلمْ يجبْهُ إلى ذلكَ، فغضبَ السائلُ، فنظرَ إليَّ يونُسُ فقلتُ لهُ‏:‏ يا هذا يُعطيكَ ما لَمْ يأْخُذْ‏؟‏‏!‏‏!‏ هذا محالٌ‏.‏ فقالَ يُونُسُ‏:‏ هذا جوابي‏.‏ قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ وهذا هو الصَّحيحُ فإنَّ هذا يُخْبرُ بما لا خَبَرَ عندهُ منهُ، ويأذنُ لهُ بالحديثِ بما لَمْ يحدَّثْ بهِ بعدُ ويُبيحُ ما لا يَعْلَمُ، هلْ يصحُّ لهُ الإذنُ فيهِ‏؟‏‏!‏ فَمَنْعُهُ الصوابُ»‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «ينبغي أنْ يُبنَى هذا على أَنَّ الإجازةَ في حُكمِ الإخبارِ بالمجُازِ جملةً، وهي إِذْنٌ‏.‏ فإنْ جُعِلَتْ في حُكمِ الإخبارِ لم يصحَّ، إذْ كيفَ يخبرُ بما لا خَبرَ عندهُ منه‏؟‏ وإنْ جُعِلَتْ إذناً انْبَنَى على الإذْن في الوكالةِ فيما لم يملكْهُ الآذنُ بعدُ‏.‏ وأجازَ ذلكَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ، قالَ‏:‏ والصحيحُ بطلانُ هذهِ الإجازةِ‏.‏ وقالَ النوويُّ‏:‏ إنَّهُ الصوابُ‏.‏ وعلى هذا يتعيَّنُ على مَنْ يَرْوِي عَنْ شيخٍ بالإجازةِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ ذلكَ سمِعَه أو تحمَّلَهُ قَبْلَ الإجازةِ له‏.‏ وأمّا إذا قالَ‏:‏ أجزتُ له ما صحَّ ويصِحُّ عندَه من مَسْمُوْعَاتي فهيَ إجازةٌ صحيحةٌ، وفَعَلَهُ الدَّارقطنيُّ وغيرُهُ ولهُ أنْ يرويَ عنهُ ما صحَّ عندَهُ بعدَ الإجازةِ أَنَّهُ سمعَهُ قبلَها، وكذلكَ لو لمْ يقلْ‏:‏ ويصحُّ، فإنَّ المرادَ بقولهِ‏:‏ مَا صَحَّ، أي‏:‏ حالةَ الروايةِ، لا حالةَ الإجازةِ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏جَازَ الكُلُّ‏)‏، أي‏:‏ ما عَرَفَ حالةَ الأداءِ أَنُّه سماعُهُ‏.‏

وقولي‏:‏ بذلَهُ بذالِ معجمةٍ، أي‏:‏ أعطاهُ لِمَنْ سألَهُ‏.‏

488‏.‏ وَالتَّاسِعُ‏:‏ الإِذْنُ بِمَا أُجِيْزَا *** لِشَيْخِهِ، فَقِيْلَ‏:‏ لَنْ يَجُوْزَا

489‏.‏ وَرُدَّ، وَالصَّحِيْحُ‏:‏ الاعْتِمَادُ *** عَلَيْهِ قَدْ جَوَّزَهُ النُّقَّاْدُ

490‏.‏ أبو نُعَيْمٍ، وَكَذَا ابْنُ عُقْدَهْ *** وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَنَصْرٌ بَعْدَهْ

491‏.‏ وَالَى ثَلاَثَاً بإِجَازَةٍ وَقَدْ *** رَأَيْتُ مَنْ وَالَى بِخَمْسٍ يُعْتَمَدْ

492‏.‏ وَيَنْبَغِي تَأَمُّلُ الإِجازَهْ *** فحيثُ شَيْخُ شَيْخِهِ أَجَاْزَهْ

493‏.‏ بَلِفْظِ مَا صَحَّ لَدَيْهِ لَمْ يُخَطْ *** مَا صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ مِنْهُ فَقَطْ

والنوعُ التاسعُ من أنواعِ الإجازةِ‏:‏ إجازةُ المجُازِ، كقولِهِ‏:‏ أجزتُ لكَ مُجَازَاتي، ونحوَ ذلكَ‏.‏فمَنَعَ جوازَ ذلكَ الحافظُ أبو البركاتِ عبدُ الوهابِ بنُ المباركِ بنِ الأنماطيِّ- أحدُ شيوخِ ابنِ الجوزيِّ- وصنَّفَ جزءاً في مَنْعِ ذلكَ‏.‏ وذلكَ أَنَّ الإجازةَ ضعيفةٌ؛ فيقْوَى الضَّعْفُ باجتماعِ إجازتينِ، وحكاهُ الحافظُ أبو عليٍّ البَرَدَانيُّ عن بعضِ مُنتحلي الحديثِ، وَلَمْ يُسمِّهِ، وقدْ أبهمَهُ ابنُ الصلاحِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بقولِهِ‏:‏ بعضُ منْ لا يُعتدُّ بِهِ من المتأخِّرينَ، قالَ‏:‏ والصحيحُ الَّذِيعليهِ العملُ أَنَّ ذلكَ جائزٌ، ولا يُشْبِهُ ذلكَما امتنعَ مِنْ توكيلِ الوكيلِ بغيرِ إذنِ المُوكِّلِ‏.‏وحَكَى الخطيبُ تجويزَهُ عن الدارقطنيِّ وأبي العباسِ بنِ عُقْدَةَ، وفعلَهُ الحاكمُ في ‏"‏تأرْيخِهِ‏"‏‏.‏ قالَ ابنُ طاهرٍ‏:‏ ولا يُعْرَفُ بين القائلينَ بالإجازةَ خلافٌ في العملِ بإجازةِ الإجازةِ، وقال أبو نُعيم‏:‏ الإجازةُ على الإجازةِ قويةٌ جائزةٌ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وَنَصْرٌ‏)‏ هو مبتدأٌ، خبرُه‏:‏ ‏(‏وَالَى ثلاثاً‏)‏، أي‏:‏ بينَ ثلاثِ أجائزَ، ويجوز أَنْ يكونَ نصرٌ معطوفاً على الدارقطنيِّ، فإنَّ فِعْلَ نصرٍ له دالٌ على جوازهِ عندَهُ، وهوَ الفقيهُ‏:‏ نصرُ بنُ إبراهيمَ المقدسيُّ، قالَ محمدُ بنُ طاهرٍ‏:‏ سمعتُه ببيتِ المقدسِ يروي بالإجازة عنِ الإجازةِ، وربَّما تابعَ بين ثلاثٍ منها‏.‏ وذكرَ أبو الفضلِ محمدُ بنُ ناصرٍ الحافظُ، أَنَّ أَبا الفتحِ ابنَ أبي الفوارسِ، حدَّثَ بجزءٍ من العلِلِ لأَحمدَ بإجازته من أبي عليًّ بنِ الصَّوَّافِ، بإجازتهِ من عبدِ الله بنِ أحمدَ، بإجازتهِ من أبيهِ‏.‏ قلتُ‏:‏ وقد رأَيتُ في كلامِ غيرِ واحدٍ مِنْ الأَئمة وأَهلِ الحديثِ، الزيادةَ على ثلاثِ أجائزَ، فرَوْوا بأربعِ أجائزَ متواليةٍ، وخمسٍ، وقدْ روى الحافظُ أبو محمدٍ عبدُ الكريمِ الحلبيُّ في ‏"‏ تاريخِ مصرَ ‏"‏ عن عبدِ الغنيِّ بنِ سعيدٍ الأزديِّ بخمسِ أجائزَ متواليةٍ في عدَّةِ مواضعَ‏.‏ وينبغي لِمَنْ يروِي بالإِجازةِ عن الإجازَةِ، أَنْ يتأَمَّلَ كيفيةَ إجازةِ شيخِ شيخِهِ لشيخهِ، ومُقْتَضَاهَا حَتَّى لا يروي بها ما لم يندرجْ تحتها، فربما قَيَّدَهَا بعضُهم بما صحَّ عند المجازِ، أو بما سمعهُ المجيزُ فقط، أو بما حدَّثَ به من مَسْمُوْعَاتِهِ أو غيرِ ذلكَ‏.‏ فإنْ كان أجازَهُ بلفظِ‏:‏ أجزتُ له ما صحَّ عندَهُ من سماعاتي؛ فليسِ للمجازِ الثاني أَنْ يروي عن المجُازِ الأولِ إلاّ ما علمَ أَنَّهُ صحَّ عنده أنَّهُ مِن سماعِ شيخِهِ الأَعْلَى‏.‏ ولا يَكتَفي بمجرَّدِ صحةِ الإجازة»، وكذلك إنْ قيَّدَها بسماعهِ، لم يتعدَّ إلى مجازاتهِ‏.‏

وقد غلطَ غيرُ واحدٍ من الأئمة، وعَثَرَ بسببِ هذا‏.‏ فمِنْ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ الإمامَ أبا عبدِ اللهِ محمدَ بنَ أحمدَ بنِ محمدٍ الأَنْدَرَشِيَّ، المعروفَ بابنِ اليَتِيْمِ،- أحَد مَنْ رحلَ وجالَ في البلادِ، وسمعَ ببلادِ المغربِ، ومصرَ، والشامِ، والعراقِ، وخراسانَ، وأخذَ عن السِّلفيِّ وابنِ عساكرَ والسهيليِّ وابنِ بَشْكَوالَ وعبدِ الحقِّ الإشبيليِّ وخلقٍ- ذكرَ إسنادهُ في الترمذيِّ عن أبي طاهرٍ السِّلفيِّ عن أحمدَ بنِ محمدِ بنِ أحمدَ بنِ سعيدٍ الحدَّادِ، عن إسماعيلَ بنِ يَنَالَ الْمَحْبُوْبيِّ، عن أبي العباسِ الْمَحْبُوْبيِّ، عن الترمذيِّ، هكذا ذكرَ الحافظُ أبو جعفرِ بنُ النَّرْسِيِّ‏:‏ أَنَّهُ وجدَهُ بخطِّ ابنِ اليتيمِ‏.‏

وَوَجْهُ الغَلَطِ فيهِ‏:‏ أَنَّ فيهِ إجازتينِ‏:‏ إحداهُما‏:‏ أنَّ ابنَ يَنَالَ أجازَ للحدَّادِ، ولم يسمعْهُ منهُ‏.‏ والثانيةُ‏:‏ أَنَّ الحدَّادَ أجازَ للسِّلَفيِّ ما سمعَهُ فقطْ، فلم يُدْخِلْ الترمذيَّ في إجازتِهِ للسِّلَفيِّ‏.‏ وذكرَ النَّرْسِيُّ‏:‏ أنَّ السِّلَفِيَّ وَهِمَ في ذلكَ قديماً ثمَّ تذكرَ ورجعَ عن هذا السندِ‏.‏ قالَ‏:‏ ومنْ هُنا تكَلَّمَ أبو جعفرِ بنُ الباذشِ في السِّلَفِيِّ، وعذرَ الناسُ السِّلَفِيِّ، فقدْ رجعَ عنهُ‏.‏ قالَ‏:‏ وتكلَّمَ الناسُ في ابنِ اليتيمِ‏:‏ قالَ‏:‏ وما أظنُّ الباعثَ لذلكَ إلاَّ ما ذكرتُهُ‏.‏ انتهى‏.‏ وقدْ بَيَّنَ السِّلَفِيُّ صورةَ إجازةِ الحدَّادِ له في ‏"‏ فهْرستِهِ ‏"‏ فيما أخبرني به محمدُ بنُ محمدِ بنِ يحيى القرشيُّ، قالَ‏:‏ أخبرنا عيسى بنُ يحيى السبتيُّ، قالَ‏:‏ أخبرنا عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ المجيدِ الصفراويُّ، أخبرني أبو طاهر السِّلَفيُّ، قال‏:‏ كانَ أبو الفرجِ الحدَّادُ يرويهِ، أي‏:‏ كتابَ الترمذيِّ، قالَ‏:‏ ولم يُجِزْ لي ما أُجيزَ لهُ، بلْ ما سمعَهُ فقطْ، قال‏:‏ كتبَ إليَّ إسماعيلُ بنُ يَنَالَ المحْبُوْبيُّ من مَرْو‏.‏ انتهى‏.‏

قلتُ‏:‏ وكانَ الشيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ دقيقِ العيدِ، لا يُجيزُ روايةَ سماعِهِ كُلِّهِ بلْ يُقَيّدُهُ بما حَدَّثَ بهِ مِنْ مَسْمُوْعَاتهِ، هكذا رأيتُهُ بخطِّهِ في عِدَّةِ إجازاتٍ، ولم أَرَ لهُ إجازةً تَشملُ مسموعَهُ؛ وذلك أَنَّهُ كَاْنَ شكَّ في بعضِ سماعاتهِ فَلَمْ يحدِّثْ بِهِ وَلَمْ يُجزْهُ، وَهُوَ سماعُهُ عَلَى ابنِ الْمُقَيَّرِ، فمَنْ حدَّثََ عنهُ بإجازتِهِ مِنْهُ بشيءٍ مِمَّا حَدَّثَ بهِ من مَسْمُوْعَاتِهِ فَهُوَ غيرُ صحيحٍ، وينبغي التنبهُ لهذا وأمثالِهِ‏.‏

لَفْظُ الإجَازَةِ، وَشَرْطُهَاْ

494‏.‏ أَجَزْتُهُ ‏(‏ابْنُ فَارِسٍ‏)‏ قَدْ نَقَلَهْ *** وَإِنَّمَا الْمَعْرُوْفُ قَدْ أَجَزْتُ لَهْ

قالَ أبو الحُسينِ أحمدُ بنُ فارسٍ‏:‏ «معنى الإجازةِ في كلامِ العربِ مأخوذٌ مِنْ جوازِ الماءِ الذي يُسْقَاهُ المالُ من الماشيةِ والْحَرْثِ، يُقالُ منهُ‏:‏ استجزتُ فلاناً فأجازني، إذا سَقَاكَ ماءً لأرضِكَ أو ماشيتِكَ، كذلكَ طالبُ العلمِ يسألُ العالِمَ أنْ يجيزَهُ عِلْمَهُ، فيجيزَهُ إيَّاهُ»‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ فللمجيزِ- على هذا- أنْ يقولَ‏:‏ أجزتُ فلاناً مَسْمُوْعَاتي، أو مَرْوِيَاتي، فيُعَدِّيهِ بغيرِ حرفِ جرٍ، من غيرِ حاجةٍ إلى ذِكْرِ لفظِ الروايةِ، أو نحوِ ذلكَ‏.‏ ويحتاجُ إلى ذلكَ مَنْ يجعلُ الإجازةَ بمعنى التسويغِ والإذنِ والإباحةِ، قالَ‏:‏ وذلكَ هو المعروفُ‏.‏ فيقولُ‏:‏ أجزتُ له روايةَ مَسْمُوْعَاتي مثلاً‏.‏ قالَ‏:‏ وَمنْ يقولُ‏:‏ أجزتُ له مَسْمُوْعَاتي فعلى سبيلِ الحذفِ الذي لا يَخْفَى نظيرُهُ‏.‏

495‏.‏ وَإِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ الإِجَازَهْ *** مِنْ عَالِمٍ بِهِ، وَمَنْ أَجَازَهْ

496‏.‏ طَالِبَ عِلْمٍ ‏(‏وَالْوَلِيْدُ‏)‏ ذَا ذَكَرْ *** عَنْ ‏(‏مَالِكٍ‏)‏ شَرْطَاً وَعَنْ ‏(‏أبي عُمَرْ‏)‏

497‏.‏ أَنَّ الصَّحِيْحَ أَنَّهَا لاَ تُقْبَلُ *** إِلاَّ لِمَاهِرٍ وَمَا لاَ يُشْكِلُ

498‏.‏ وَالْلَفْظُ إِنْ تُجِزْ بِكَتْبٍ أَحْسَنُ *** أو دُوْنَ لَفْظٍ فَانْوِ وَهْوَ أَدْوَنُ

هذا بيانٌ لشرطِ صحةِ الإجازة عند بعضهِمِ على الخلافِ المذكورِ‏.‏ قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّمَا تُستَحْسَنُ الإجازةُ إذا كانَ الْمُجيزُ عالماً بما يُجيزُ، والمجازُ لهُ مِنْ أهلِ العلمِ؛ لأَنَّها تَوَسُّعٌ وترخيصٌ، يتأَهلُ لَهُ أهلُ العلمِ لِمسيسِ حاجتِهِم إليها‏.‏ قَالَ‏:‏ وبالغَ بعضُهم في ذَلِكَ فجعلَه شرطاً فِيْهَا، وحكاهُ الوليدُ بنُ بكرٍ المالكيُّ عن مالكٍ، وَقَالَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ‏:‏ الصحيحُ أَنَّها لا تجوزُ إلاّ لماهرٍ بالصناعةِ، وفي شيءٍ مُعيَّنٍ لا

يُشْكِلُ إسنادُهُ‏.‏ ثُمَّ الإجازةُ قد تكونُ بلفظِ الشيخِ وقد تكونُ بالخطِّ، سواءٌ أجازَ ابتداءً أَمْ كتبَ بهِ على سؤالِ الإجازةِ‏؟‏ كما جرتِ العادةُ‏.‏ فإنْ كانتِ الإِجازةُ بالخطِّ فالأحسنُ والأَولى أن يتلفَّظَ بالإجازةِ أيضاً، فإنِ اقتصرَ على الكتابةِ ولم يتلفظْ بالإجازةِ أيضاً، صحتْ إذا اقترنتِ الكتابةُ بقصدِالإجازةِ؛ لأنَّ الكتابةَ كتابةٌ وهذهِ دون الإجازةِ الملفوظِ بها في المرتبةِ‏.‏ فإنْ لم يقصدِ الإجازةَ فالظاهرُ عدمُ الصحةِ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وغيرُ مستبَعدٍ تصحيحُ ذلك بمجردِ هذهِ الكتابةِ في بابِ الروايةِ التي جُعلتْ فيه القراءةُ على الشيخِ، مع أَنَّهُ لم يلفظْ بما قُرِئَ عليه اخبارًا منه بذلك‏.‏

الرَّاْبِعُ‏:‏ الْمُنَاولَةُ

499‏.‏ ثُمَّ الْمُنَاولاَتُ إِمَّا تَقْتَرِنْ *** بِالإِذْنِ أَوْ لاَ، فَالَّتِي فِيْهَا إِذِنْ

500‏.‏ أَعْلَى الإْجَازَاتِ، وَأَعْلاَهَا إذا *** أَعْطَاهُ مِلْكَاً فَإِعَارَةً كَذَا

501‏.‏ أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ بِالْكِتَابِ لَهْ *** عَرْضاً وَهَذَا الْعَرْضُ لِلْمُنَاولَهْ

502‏.‏ وَالشَّيْخُ ذُوْ مَعْرِفَةٍ فَيِنَظُرَهْ *** ثُمَّ يُنَاولَ الْكِتَابَ مُحْضِرَهْ

503‏.‏ يقول‏:‏ هَذَا مِنْ حَدِيْثِي فارْوِهِ *** وَقَدْ حَكَوْا عَنْ ‏(‏مَالِكٍ‏)‏ وَنَحْوِهِ

504‏.‏ بِأَنَّهَا تُعَادِلُ السَّمَاعَا *** وَقَدْ أَبَى الْمُفْتُوْنَ ذَا امْتِنَاعَا

505‏.‏ إِسْحَاقُ وَالثُّوْرِيْ مَعَ النُّعْمَانِ *** وَالشَّافِعيْ وَ أحْمَدُ الشَّيْبَانِيْ

506‏.‏ وَ‏(‏ابْنُ الْمُبَارَكِ‏)‏ وَغَيْرُهُمْ رَأوْا *** بِأَنَّهَا أَنْقَصُ، قُلْتُ‏:‏ قَدْ حَكَوْا

507‏.‏ إِجْمَاعَهُمْ بِأَنَّهَا صَحِيْحَهْ *** مُعْتَمَداً، وَإِنْ تَكُنْ مَرْجُوْحَةْ

القسمُ الرابعُ من أقسامِ الأَخذِ والتحمُّلِ‏:‏ المناولةُ، وهي على نوعينِ‏:‏ الأولُ‏:‏ المناولةُ المقرونةُ بالإجازةِ، وهي أَعلى أنواعِ الإجازةِ على الإطلاقِ‏.‏

ثُمَّ لهذهِ المناولةِ العاليةِ صورٌ، أعلاها أنْ يُناولَهُ شيئاً من سماعِهِ، أصلاً أو فرعاً مقابلاً به، ويقولَ‏:‏ هَذا مِنْ سَمَاعِي، أو رِوَايَتِي عن فلانٍ فاروهِ عنِّي، ونحو ذلكَ‏.‏ وكذا لو لم يذكرْ شيخَهُ وكان اسمُ شيخِهِ في الكتابِ المُنَاول، وفيهِ بيانُ سماعِهِ منهُ، أو إجازتِهِ منهُ، ونحوِ ذلكَ، ويُمَلِّكُهُ الشيخُ لهُ، أو يقولُ له‏:‏ خُذْهُ وانتسخْهُ، وقابلْ به، ثم رُدَّهُ إليَّ، ونحَو ذلك‏.‏ ومنها أَنْ يناولَهُ له ثُمَّ يَرْتَجِعَهُ منهُ في الحالِ، وسيأتي حكمُ هذهِ الصورةِ في الأبياتِ التي تلي هذهِ، ومنها أَنْ يُحضِرَ الطالبُ الكتابَ- أَصْلَ الشيخِ أو فرعَهُ المُقابلَ بهِ- فيعرضَهُ عليهِ، وسَمَّاهُ غيرُ واحدٍ من الأئمةِ عَرْضَاً، فيكونُ هذا عَرْضَ المناولِة، وقد تقَدَّمَ عَرْضُ السَّماعِ‏.‏ فإذا عَرَضَ الطالبُ الكتابَ على الشَّيْخِ، تأَمَّلَهُ الشَّيْخُ، وهوَ عارفٌ مُتَيَقِّظٌ، ثمَّ يُنَاولُهُ للطالبِ، ويقولُ‏:‏ هوَ روايتي عن فلانٍ أو عمَّنْ ذُكِرَ فيه، أو نحوَ ذلك، فاروِهِ عنِّي، ونحوَ ذلكَ‏.‏ ولم يتعرضِ ابنُ الصلاحِ لكونِ الصورةِ الأُوْلى من صُوَرِ المناولةِ أعلى، ولكنَّهُ قَدَّمَها في الذِّكْرِ، وقالَ القاضي عياضٌ‏:‏ أَرفعُها أَنْ يدفعَ الشَّيْخُ كتابَهُ للطالبِ فيقولَ‏:‏ هذهِ روايتي فارْوِها عنِّي، ويدفَعَها إليهِ، أو يقولَ له‏:‏ خذْها فَانْسَخْهَا، وقابلْ بها ثمَّ اصْرِفْهَا إليَّ، أو يأتيهِ الطالبُ بنسخةٍ صحيحةٍ إلى آخرِ كلامِهِ‏.‏ وهذهِ المناولةُ المقرونةُ بالإجازةِ حَالَّةٌ محلَّ السَّماعِ عندَ بعضهِم، كما حكاهُ الحاكمُ عن ابنِ شهابٍ، وربيعةَ الرأي، ويحيى بنِ سعيدٍ الأنصاريِّ، ومالكٍ في آخرينَ مِن أهلِ المدينةِ، ومَكَّةَ والكوفةِ والبصرةِ والشامِ ومصرَ وخُراسانَ‏.‏ وفي كلامِهِ بعضُ تخليطٍ؛ إذْ خلطَ عَرْضَ المناولةِ بعرْضِ السَّمَاعِ، وقالَ الحاكمُ في هذا العرضِ‏:‏ أما فقهاءُ الإسلامِ الذين أَفتوْا في الحلالِ والحرامِ فإنَّهم لم يَرَوْهُ سماعاً، وبهِ قالَ الشافعيُّ والأوزاعيُّ والبويطيُّ والْمُزَنيُّ وأبو حنيفةَ وسفيانُ الثوريُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ وابنُ المباركِ ويحيى بنُ يحيى وابنُ راهويهِ‏.‏قالَ‏:‏ وعليهِ عَهِدْنَا أَئمَتَنا، وإليهِ ذهبوا، وإليهِ نَذْهَبُ‏.‏ وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّهُ الصحيحُ وإنَّ هذا مُنْحَطٌّ عن التَّحْدِيثِ والإخبارِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏قُلتُ‏:‏ قَدْ حَكَوَا إجماعَهُمْ‏)‏، أي‏:‏ أجماعَ أهلِ النقلِ، وإنما زدْتُ نَقْلَ اتفاقِهم هنا؛ لانَّ الشيخَ حكى الخلافَ المتقدِّمَ في الإجازةِ، ولم يحكِ هنا إلاَّ كونَها مُوازيةً للسَّمَاعِ أولا، فأردْتُ نَقْلَ اتفاقِهِم على صَحَّتِهَا، وقد حكاهُ القاضي عياضٌ في ‏"‏ الإِلماعِ ‏"‏ بعد أنْ قالَ‏:‏ وهي روايةٌ صحيحةٌ عند معظمِ الأئَمةِ والمحدِّثينَ، وسَمَّى جماعةً، ثُمَّ قالَ‏:‏ وهو قولُ كافةِ أهلِ النقلِ والأَداءِ والتحقيقِ من أهلِ النَّظَرِ‏.‏ انتهى‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏مُعتَمَداً‏)‏، هو بفتحِ الميمِ، وهو تمييزٌ، أي‏:‏ صحيحةً اعتماداً‏.‏

508‏.‏ أَمَّا إذا نَاولَ وَ اسْتَرَدَّا *** فِي الْوَقْتِ صَحَّ وَالْمُجَازُ أَدَّى

509‏.‏ مِنْ نُسْخَةٍ قَدْ وَافَقَتْ مَرْوِيَّهْ *** وَهَذِهِ لَيْسَتْ لَهَا مَزِيَّهْ

510‏.‏ عَلَى الذَّيِ عُيَّنَ فِي الاجَازَهْ *** عِنْدَ الْمُحَقِّقِيْنَ لَكِنْ مَازَهْ

511‏.‏ أَهْلُ الْحَدِيْثِ آخِراً وَقِدْمَا أَمَّا *** إذا مَا الشَّيْخُ لَمْ يَنْظُرْ مَا

512‏.‏ أَحْضَرَهُ الطَّالِبُ لَكِنْ اعْتَمَدْ *** مَنْ أَحْضَرَ الْكِتَابَ وَهْوَ مُعْتَمَدْ

513‏.‏ صَحَّ وَإِلاَّ بَطَلَ اسْتِيْقَانَا *** وَإِنْ يَقُلْ‏:‏ أَجَزْتُهُ إِنْ كَانَا

514‏.‏ ذَا مِنْ حَدِيْثِي، فَهْوَ فِعْلٌ حَسَنُ *** يُفِيْدُ حَيْثُ وَقَعَ التَّبَيُّنُ

هذا أحدُ صورِ المناولةِ الذي تقدمَ الوعدُ بذكرِهِ، وهو أَنْ يُنَاولَهُ الشيخُ الكتابَ، ويجيزُ له روايتَهُ ثم يرتجِعَهُ منه في الحالِ‏.‏ فالمناولةُ صحيحةٌ ولكنها دونَ الصُّوَرِ المتقدمَةِ لعدمِ احتواءِ الطالبِ عليهِ وغيبتِهِ عنهُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏والمجُازُ‏)‏، أي‏:‏ والمجازُ له، وهو مبتدأٌ خبرُهُ‏:‏ أدَّى، أي‏:‏ ومَنْ تناولَ على هذهِ الصُّورَةِ فَلَهُ أَن يُؤَدِّيَ مِنَ الأَصْلِ الذي ناولَهُ لهُ الشيخُ واستردَّهُ، إذا ظَفَرَ بهِ، معَ غَلبَةِ ظنِّهِ بسلامتِهِ من التغييرِ، أو مِنْ فَرْعٍ مُقَاْبَلٍ بهِ كذلكَ، وهو المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏قَدْ وَافَقَتْ مَرْوِيَّهْ‏)‏ أي‏:‏ الكتابَ الذي تناولَهُ، إمَّا بكونِهِ من الكتابِ المُنَاولِ نفسِهِ، مَعَ غَلَبَةِ السلامةِ، أو مِنْ نسخةٍ توافِقُهُ بمقابَلَتِهِ، أو إخبارِ ثقةٍ بموافقَتِها، ونحوِ ذلكَ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وَهَذِهِ‏)‏، أي‏:‏ وهذهِ الصورةُ من صُوَرِ المناولةِ ليستْ لها مزيةٌ على الإجازةِ بكتابٍ مُعَيَّنٍ، قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ وعلى التحقيقِ فليسَ هذا بشيءٍ زائدٍ على معنى الإجازَةِ للشيءِ المُعَيَّنِ من التصانيفِ المشهورةِ والأَحاديثِ المعروفةِ المُعَيَّنَةِ، ولا فرقَ بين إجازتِهِ إيَّاهُ أَنْ يُحَدِّثَ عنه بكتابِ ‏"‏ الموطأ ‏"‏ وهوَ غائبٌ أو حاضرٌ، إذ المقصودُ تعيينُ ما أَجَازَهُ لهُ‏.‏ لكنْ قديماً وحديثاً شيوخُنُا من أَهلِ الحديث يَرَوْنَ لهذا مزيةً على الإجازةِ‏.‏ قال‏:‏- ولا مزيةَ له عند مشايخِنا من أَهلِ النظرِ والتحقيقِ، بخلاف الوُجُوْهِ الأُوَلِ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏عِنْدَ المُحَقِّقينَ‏)‏ مما زِدْتُهُ على ابنِ الصَّلاحِ من كلامِ القاضي عياضٍ‏.‏ وابنُ الصلاحِ إنَّمَا حَكَى هذا عن غيرِ واحدٍ من الفقهاءِ والأُصوليينَ لا عن أَهلِ التحقيقِ، كما قالَ عياضٌ، واللهُ أعلمُ‏.‏

ومن صُوَرِ المناولةِ‏:‏ أنْ يُحْضِرَ الطالبُ الكتابَ للشيخِ، فيقولَ‏:‏ هذا روايتُكَ فناولْنِيْهِ وأَجِزْ لي روايتَهُ فلا ينظرُ فيه الشيخُ، ولا يتحقَقُ أَنَّهُ روايتُه، ولكنِ اعتمدَ خبرَ الطالبِ، والطالبُ ثقةٌ، يُعتمَدُ على مثلِهِ، فَأجابَهُ إلى ذلكَ؛ صحتِ المناولةُ والإجازةُ‏.‏ وإنْ لم يكنِ الطالبُ موثوقاً بخبرِهِ ومعرفتِهِ، فإنَّهُ لا تجوزُ هذهِ المناولةُ، ولا تصحُّ، ولا الإجازةُ فإنْ ناولَهُ وأَجازَهُ، ثُمَّ تبيَّنَ بعدَ ذلكَ بخبرِ ثقةٍ يُعتمدُ عليه‏:‏ أَنَّ ذلك كان من سماعِ الشيخِ أو مِنْ مرويَّاتِه فهل يُحكَمُ بصحةِ المناولةِ والإجازة السابقتَيْنِ‏؟‏ لَمْ يَنُصَّ عَلَى هذهِ صريحاً ابنُ الصلاحِ، وعمومُ كلامهِ يقتضي‏:‏ أنَّ ذَلِكَ لا يصحُّ‏.‏ وَلَمْ أرَهَ أيضاً في كلامِ غيرِهِ، إلاَّ في عمومِ كلامِ الخطيبِ الآتي‏.‏ والظاهرُ الصحَّةُ؛ لأَنَّهُ تبيَّنَ بعدَ ذلكَ صحَّةُ سماعِ الشيخِ لما ناولَهُ وأجازَهُ، وزالَ ما كنَّا نخشى من عدمِ ثقةِ المُخْبِرِ، واللهُ أعلمُ‏.‏ قالَ الخطيبُ‏:‏ ولو قالَ‏:‏ حَدِّثْ بما في هذا الكتابِ عنِّي إنْ كانَ مِنْ حَدِيْثِي، مع براءَتي مِنَ الغَلَطِ والوَهْمِ، كانَ ذلكَ جائزاً حسناً‏.‏ انتهى‏.‏ ويدخلُ في كلامِ الخطيبِ الصورتانِ‏:‏ ما إذا كان مَنْ أحضرَ الكتابَ ثقةً معتمداً؛ وما إذا كان غيرَ موثوقٍ به‏.‏ فإنْ كانَ ثقةً، جازتِ الروايةُ بهذهِ المناولةِ والإجازةِ، وإن كانَ غيرَ موثوقٍ بهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ الإجازةِ بخبرِ مَنْ يوثَقُ به أَنَّ ذلك الذي ناولَهُ الشيخُ كانَ مِنْ مرويَّاتِهِ؛ جازتْ روايتُهُ بذلك‏.‏ وأشرتُ إلى ذلكَ بقولي‏:‏ ‏(‏يُفيدُ حَيْثُ وَقَعَ التَّبَيُّنُ‏)‏‏.‏ وهذا النصفُ الأخيرُ من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ‏.‏

515‏.‏ وإنْ خَلَتْ مِنْ إذْنِ المُنَاْولَهْ *** قِيْلَ‏:‏ تَصِحُّ والأَصَحُّ بَاْطِلَهْ

هذا النوعُ الثاني من نوعَيْ المناولةِ‏:‏ وهو ما إذا تجرَّدَتِ المناولةُ عن الإجازة بأَنْ يُنَاولَهُ الكتابَ، ويقول‏:‏ هذا مِنْ حَدِيْثِي، أو من سَمَاعَاتي، ولا يقولُ لهُ‏:‏ ارْوِهِ عنِّي، ولا أَجزتُ لكَ روايتَهُ، ونحوَ ذلكَ‏.‏ وقدِ اخْتُلِفَ فيها، فحكى الخطيبُ عن طائفةٍ من أهلِ العلمِ‏:‏ أنَّهم صَحَّحُوها وأَجازوا الروايةَ بها، وقالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ هذهِ إجازةٌ مختلةٌ، لا تجوزُ الروايةُ بها، قالَ‏:‏ وعابَها غيرُ واحدٍ مِنَ الفقهاءِ والأصوليينَ على المحَُدِّثِيْنَ الَّذِيْنَ أَجازوها، وسَوَّغُوا الروايةَ بِهَا‏.‏وَقَالَ النوويُّ في ‏"‏التقريبِ والتيسيرِ‏"‏‏:‏ لا تجوزُ الروايةُ بِهَا عَلَى الصحيحِ الَّذِي قَالَهُ الفقهاءُ، وأصحابُ الأصولِ‏.‏ قلتُ‏:‏ ما أطلقَهُ من أَنَّهُ قالَهُ الفقهاءُ وأصحابُ الأصولِ معَ كونهِ مخالفاً لكلامِ ابنِ الصَّلاَحِ في حكايتهِ لذلكَ عنْ غيرِ واحدٍ، فهوَ مخالِفٌ لما قالهُ جماعةٌ من أهلِ الأصُولِ، مِنْهُمْ صاحبُ ‏"‏المحصولِ‏"‏، فإنَّهُ لَمْ يشترطِ الإذنَ، بلْ ولا المناولةَ، بلْ إذا أشارَ الشيخُ إِلَى كتابٍ، وقالَ‏:‏ هَذَا سَمَاعي من فلانٍ، جازَ لمنْ سمعَهُ أن يرويَهُ عنهُ، سواءٌ أَناولَهُ أم لا‏؟‏ خلافاً لبعضِ المحَُدِّثِيْنَ، وسواءٌ قالَ لهُ ارْوِهِ عنِّي أمْ لا‏.‏نعمْ‏.‏‏.‏، مقتضى كلامِ السيفِ الآمِدِيِّاشتراطُ الإذْنِ في الروايةِ، وقدْ قالَابنُ الصَّلاحِ بعد هذا‏:‏ إنَّ الروايةَ بها تترجَّحُ على الروايةِ بمجردِ إعلامِ الشيخِ، لما فيهِ مِنَ المناولةِ، فإنَّها لا تخلو من إشعارٍ بالإذْنِ في الروايةِ‏.‏

كَيْفَ يَقُوْلُ مَنْ رَوَى بِالمُنَاولَةِ وَالإِجَاْزَةِ‏؟‏

516‏.‏ وَاخْتَلَفُوا فِيْمَنْ رَوَى مَا نُوْوِلاَ *** ‏(‏فَمَالِكٌ‏)‏ وَ ‏(‏ابْنُ شِهَابٍ‏)‏ جَعَلاَ

517‏.‏ إِطْلاَقَهُ ‏(‏حَدَّثَنَا‏)‏ وَ ‏(‏أَخْبَرَا‏)‏ *** يَسُوْغُ وَهْوَ لاَئِقٌ بِمَنْ يَرَى

518‏.‏ الْعَرْضَ كَالسَّمَاعِ بَلْ أَجَازَه *** بَعْضُهُمُ في مُطْلَقِ الإِجَازَهْ

519‏.‏ وَ ‏(‏الْمَرْزُبَانِيْ‏)‏ وَ ‏(‏أبو نُعَيْمِ‏)‏ *** أَخْبَرَ، وَالصَّحِيْحُ عِنْدَ القَوْمِ

520‏.‏ تَقْيِيْدُهُ بِمَا يُبيِنُ الْوَاقِعَا *** إِجَازَةً تَنَاولاً هُمَا مَعَا

521‏.‏ أَذِنَ لِي، أَطْلَقَ لِي، أَجَازَنِي *** سَوَّغَ لِي، أَبَاحَ لِي، نَاولَنِي

522‏.‏ وَإِنْ أَبَاحَ الشَّيْخُ لِلْمُجَازِ *** إِطَلاَقَهُ لَمْ يَكْفِ فِي الْجَوَازِ

اختلفوا في عبارةِ الراوي لما تحمَّلَهُ بطريقِ المناولةِ، فحُكِيَ عن جماعةٍ، منهم‏:‏ أبو بكرِ ابنُ شهابٍ الزهريُّ، ومالكُ بنُ أنسٍ، جوازُ إطلاقِ حدثنا وأخبرنا، وهو لائقٌ بمذهبِ مَنْ يرى عرضَ المناولةِ المقرونةِ بالإجازةِ سماعاً، ممَّنْ تَقَدَّمَتْ حكايتُهُ عنهم‏.‏ وحُكِيَ عن قومٍ آخرينَ‏:‏ جوازُ إطلاقِ‏:‏ حدَّثَنا وأخبرنا في الروايةِ بالإجازَةِ مطلقاً، قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ وحُكِيَ ذلك عن ابنِ جُرَيْجٍ، وجماعةٍ من المتقدمينَ، وَحَكَى الوليدُ بنُ بكرٍ‏:‏ أنَّهُ مذهبُ مالكٍ، وأهلِ المدينةِ، وذهبَ إلى جوازهِ إمامُ الحرمينِ، وخالفَهُ غيرُهُ من أهلِ الأُصُولِ‏.‏ وأَطلقَ أبو نُعَيمٍ الأصبهانيُّ، وأبو عُبيدِ اللهِ الْمَرْزُبانيُّ في الإجازةِ‏:‏ أخبرنا من غيرِ بيانٍ‏.‏وحَكَى الخطيبُ‏:‏ أَنَّ الْمَرْزُبانيَّ عِيْبَ بذلكَ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏والمَرْزُباني وأبو نُعَيم أَخْبَرَ‏)‏ أي‏:‏ أطلقا لفظَ أخبرَ في الإجازة، والصحيحُ المختارُ الذي عليهِ عملُ الجمهورِ، واختارهُ أهلُ التَّحَرِّي، والورعِ‏:‏ المنعُ من إطلاقِ حَدَّثَنا وأخبرنا، ونحوهِما في المناولةِ والإجازةِ، وَتقييدُ ذلكَ بعبارةٍ تُبيِّنُ الواقعَ في كيفيةِ التحمُّلِ، وتُشْعِرُ بهِ، فنقولُ‏:‏ أخبرنا أو حَدَّثَنا فلانٌ إجازةً، أو مناولةً، أو إجازةً ومناولةً، أو إذْنَاً، أو في إذنهِ، أو أذِنَ لِي، أو أطلَقَ لي روايتَهُ عنه، أو أجازني، أو أجازَ لي، أو سوَّغَ لي أنْ أرويَ عنه، أو أباحَ لي، أو ناولَني، وما أشبهَ ذلكَ مِنَ العباراتِ الْمُبَيِّنَةِ لكيفيةِ التحمُّلِ‏.‏ وإنْ أباحَ المجيزُ للمُجَازِ إطلاقَ أخبرنا أو حَدَّثَنَا في الإجازةِ، أو المناولةِ، لم يجزْ لهُ ذلكَ، كما يفعلُهُ بعضُ المشايخِ في إِجازتهِمِ، فيقولونَ عَمَّنْ أجازُوا لَهُ‏:‏ إنْ شاءَ قالَ‏:‏ حَدَّثَنا، وإنْ شاءَ قالَ‏:‏ أخبرنا‏.‏

523‏.‏ وَبَعْضُهُمْ أَتَى بِلَفَظٍ مُوْهِمْ *** ‏(‏شَافَهَنِي‏)‏ ‏(‏كَتَبَ لِي‏)‏ فَمَا سَلِمْ

524‏.‏ وَقَدْ أَتَى بِـ ‏(‏خَبَّرَ‏)‏ الأوزَاعِيْ *** فِيْهَا وَلَمْ يَخْلُ مِنَ النِّزَاعِ

525‏.‏ وَلَفْظُ «أَنَّ» اخْتَارَهُ ‏(‏الْخَطَّابي‏)‏ *** وَهْوَ مَعَ الإِسْنَادِ ذُوْ اقْتِرَابِ

526‏.‏ وَبَعْضُهُمْ يَخْتَارُ فِي الإِجَازَهْ *** ‏(‏أَنْبَأَنَا‏)‏ كَصَاحِبِ الْوِجَازَهْ

527‏.‏ وَاخْتَارَهُ ‏(‏الْحَاكِمُ‏)‏ فِيْمَا شَافَهَهْ *** بِالإِذْنِ بَعْدَ عَرْضِهِ مُشَافَهَهْ

528‏.‏ وَاسْتَحْسَنُوْا لِلْبَيَهْقَيْ مُصْطَلَحا *** ‏(‏أَنْبَأَنَا‏)‏ إِجَازَةً فَصَرَّحَا

529‏.‏ وَبَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ اسْتَعْمَلَ عَنْ *** إِجَازَةً، وَهْيَ قَرِيْبَةٌ لِمَنْ

530‏.‏ سَمَاعُهُ مِنْ شَيْخِهِ فِيْهِ يَشُكّْ *** وَحَرْفُ ‏(‏عَنْ‏)‏ بَيْنَهُمَا فَمُشْتَرَكْ

531‏.‏ وَفِي الْبُخَارِيْ قَالَ لِي‏:‏ فَجَعَلَهْ *** حِيْرِيُّهُمْ لِلْعَرْضِ وَالمُنَاولَهْ

هذهِ الألفاظُ استعملَها بعضُ أهلِ العلمِ في الروايةِ بالإجازةِ‏.‏ فاستعملَ بعضُهم فيها‏:‏ شَافَهَنِي فُلاَنٌ، أو أخبرنا مُشَافَهةً، إذا كانَ قدْ شَافهَهُ بالإجازةِ لفظاً‏.‏ واستعملَ بعضُهُم في الإجازةِ بالكتابةِ كَتَبَ لي، أو إليَّ فلانٌ، أو أخبرنا كتابةً، أو في كتابهِ‏.‏ وهذهِ الألفاظُ وإنِ استعملَهَا طائفةٌ من المتأخِّرِينَ، فلا يَسْلَمُ مَنِ استعملَها مِنَ الإيهامِ، وطَرَفٍ مِنَ التَّدْلِيْسِ‏.‏ أمَّا الْمُشَافَهَةُ فَتُوْهِمُ مُشافهتَهُ بالتَّحْدِيثِ‏.‏ وأمَّا الكتابةُ فَتُوْهِمُ أَنَّهُ كَتَبَ إليهِ بذلكَ الحديثِ بعينِهِ، كما كانَ يفعلُهُ المتقدِّمُوْنَ، ومِنْهَا لَفْظُ‏:‏ خَبَّرَنا، وقد ورَدَ عَنِ الأوزاعيِّ‏:‏ أَنَّه خَصَّصَ الإجازةَ بقولهِ‏:‏ خَبَّرَنا-بالتشديدِ-، والقراءةَ عليهِ، بقولهِ‏:‏ أخبرنا‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏ولم يَخْلُ مِنَ النِّزَاعِ‏)‏ أي‏:‏ إنَّ معنى خَبَّرَ وأَخْبَرَ واحدٌ من حيثُ اللغةُ، ومن حيثُ الاصطلاحُ المتعارفُ بين أهلِ الحديثِ‏.‏ ومنها لفظُ‏:‏ «أن» فيقولُ في الروايةِ بالسماعِ عن الإجازةِ‏:‏ أخبرنا فلانٌ أنَّ فلاناً حَدَّثَهُ، أو أخبرهُ‏.‏ وحُكِيَ عن الْخَطَّابِيِّ‏:‏ أنَّهُ اختارَهُ، أو حَكَاهُ‏.‏ وهوَ بعيدٌ مِنَ الإشعارِ بالإجازةِ‏.‏ وحَكَاهُ القاضي عياضٌعن اختيارِ أبي حاتِمٍ الرازيِّ، قالَ‏:‏ وأَنكرَ هذا بعضُهُم، وحقُّهُ أَنْ يُنْكِرَ، فلا معنى لهُ يُتَفَهَّمُ منهُ المرادُ، ولا اعْتِيدَ هذا الوضْعُ في المسألةِ لغةً ولا عرفاً ولا اصطلاحاً‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وهو فيما إذا سمعَ منهُ الإسنادَ فحسبُ، وأجازَ لهُ ما رواهُ قريبٌ؛فإنَّ فِيْهَا إشعاراً بوجودِ أصلِ الإخبارِ، وإنْ أَجْمَلَ المُخْبَرَ بهِ وَلَمْ يذكرْهُ تفصيلاً‏.‏ومنها‏:‏ أَنْبَأَنَا، وَهِيَ عِنْدَ المتقدمين بمنْزِلةِ‏:‏ أَخْبَرَنَا‏.‏ وحَكَى الْقَاضِي عياضٌعن شعبةَ‏:‏ أنَّهُ قَالَ في الإجازةِ مرةً‏:‏ أَنْبَأَنَا، قَالَ‏:‏ ورُوِي عَنْهُ أيضاً‏:‏ أَخْبَرَنَا‏.‏ قلتُ‏:‏ وكلاهما بعيدٌ عَنْ شُعْبَةَ فإنَّهُ كَانَ مِمَّنْ لايرى الإجَاْزَةَ كَمَا تقدَّمَ نَقْلُهُ عنهُ‏.‏ واصطلحَ قومٌ من المتأخِّرينَ عَلَى إطلاقِها في الإجازةِ، واختارَهُ صاحبُ ‏"‏ الوِجَازَةِ ‏"‏، وَهُوَ الوليدُ بنُ بكرٍ، وَقَالَ الحاكمُ‏:‏ الَّذِي أَخْتَاْرُهُ وعهدْتُ عليهِ أكثرَ مشايخي، وأَئِمَّةَ عَصْرِي، أَنْ يقولَ فِيْمَا عُرِضَ عَلَى المحدِّثِ فأَجازَ لهُ روايتَهُ شفاهاً‏:‏ أنبأني فلانٌ‏.‏ وكانَ البيهقيُّ يقولُ في الإجازةِ‏:‏ أَنْبَأَنَا إجازةً‏.‏ وفي هَذَا التصريحُ بالإجازةِ معَ رعايةِ اصطلاحِ المتأخِّرينَ‏.‏ومنها لفظُ «عَنْ»، وكثيراً ما يأتي بِهَا المتأخِّرُون في موضعِ الإجازةِ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وذلكَ قريبٌ فِيْمَا إذا كانَ قدْ سمعَ منهُ بإجازتِهِ من شيخِهِ إنْ لَمْ يكنْ سماعاً فإنَّهُ شاكٌّ‏.‏ ‏(‏وحرفُ ‏(‏عَنْ»‏:‏ مشتركٌ بين السماعِ والإجازةِ صادقٌ عليهما‏.‏

قولي‏:‏ ‏(‏فَمُشْتَرَكْ‏)‏، دخلتِ الفاءُ في الخبِر على رأيِ الكسائيِّ‏.‏ ومنها‏:‏ قالَ لي فلانٌ، وكثيراً ما يُعبِّرُ بها البخاريُّ، فقالَ أبو عمرٍو محمدُ بنُ أبي جعفرٍ أحمدَ بنِ حَمْدَانَ الحِيْرِيُّ‏:‏ كُلُّ مَا قالَ البخاريُّ‏:‏ قالَ لي فلانٌ، فهو عَرْضٌ ومناولةٌ‏.‏ وقد تقدَّمَ أَنَّها محمولةٌ على السَّماعِ، وأَنَّها كـ ‏(‏أَخبرنا‏)‏ وأَنَّهم كثيراً ما يستعملونها في المُذاكرةِ، وأنَّ بعضَهم جعلَها مِنْ أَقسامِ التعليقِ، وأَنَّ ابنَ مَنْدَه جعلَها إجازَةً‏.‏

الخَاْمِسُ‏:‏ المُكَاتَبَةُ

532‏.‏ ثُمَّ الْكِتَابَةُ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَوْ *** بِإِذْنِهِ عَنْهُ لِغَائِبٍ وَلَوْ

533‏.‏ لِحَاضِرٍ فَإِنْ أَجَازَ مَعَهَا *** أَشْبَهَ مَا نَاوَلَ أَوْ جَرَّدَهَا

534‏.‏ صَحَّ عَلى الصَّحِيْحِ وَالْمَشْهُوْرِ قَالَ بِهِ ‏(‏أَيُّوْبُ‏)‏ مَعْ ‏(‏مَنْصُورِ‏)‏

535‏.‏ وَالْلَيْثُ وَالسَّمْعَانِ قَدْ أَجَازَهْ *** وَعَدَّهُ أَقْوَى مِنَ الإِجَازَهْ

536‏.‏ وَبَعْضُهُمْ صِحَّةَ ذَاكَ مَنَعَا *** وَصَاحِبُ الْحَاوِيْ بِهِ قَدْ قَطَعَا

القسمُ الخامسُ من أقسامِ تحمُّلِ الحديثِ‏:‏ المكاتبةُ، وهيَ‏:‏ أَنْ يكتُبَ الشيخُ شيئاً من حديثِهِ بخطِّهِ، أو يأْمرَ غيرَهُ فيكتُبَ عنهُ بإذْنِهِ، سواءٌ كتَبَهُ أو كَتَبَ عنهُ إلى غائبٍ عنهُ أو حاضرٍ عندَهُ، وهيَ أيضاً تنقسمُ إلى نوعينِ‏:‏

أحدُهما‏:‏ الكتابةُ المقترنةُ بالإجازةِ بأَنْ يكتُبَ إليه ويقولَ‏:‏ أَجزتُ لكَ ما

كتبتُهُ لكَ، ونحوِ ذلكَ‏.‏ وهيَ شبيهةٌ بالمناولةِ الَمَقْرُونةِ بالإجازةِ في الصِّحَّةِ والقُوَّةِ‏.‏

والنوعُ الثاني‏:‏ الكتابةُ المجرَّدَةُ عنِ الإجازةِ‏.‏ وإليها أَشرتُ بقولي‏:‏ ‏(‏أو جَرَّدَهَا‏)‏ أي‏:‏ مِنَ الإجازةِ فإنِّها صَحِيْحَةٌ تجوزُ الروايةُ بها على الصحيحِ المشهورِ بينَ أهلِ الحديثِ، وهوَ عندَهم معدودٌ في المُسْنَدِ الموصولِ، وهو قولُ كثيرٍ من المتقدِّمِينَ والمتأخِّرِيْنَ، منهم‏:‏ أيوبُ السِّخْتِيَانيُّ، ومَنصورٌ، والليثُ بنُ سعدٍ، وغيرُ واحدٍ من الشَّافِعيِّيْنَ، منهم‏:‏ أبو المظفَّرِ السَّمْعَانيُّ، وجعلَها أَقوى من الإجازةِ‏.‏ وإليهِ صارَ جماعةٌ من الأُصوليينَ منهم‏:‏ صاحبُ ‏"‏المحصولِ‏"‏‏.‏ وفي الصحيحِ أحاديثُ من هذا النوعِ، منها عندَ مسلمٍ‏:‏ حديثُ عامرِ بنِ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ، قالَ‏:‏ كتبتُ إلى جابرِ بنِ سَمُرَةَ مَعَ غُلاَمي نافعٍ، أَنْ أَخْبَرَني بشيءٍ سمعتَهُ مِنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏ قالَ‏:‏ فكتبَ إليَّ‏:‏ سمعتُ مِنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ جُمُعَةٍ، عَشِيَّةَ رُجِمَ الأَسْلَمِيُّ، فذكرَ الحديثَ‏.‏ وقالَ البخاريُّ في كتابِ الأَيْمانِ والنُّذُورِ‏:‏ كتَبَ إِليَّ محمَّدُ بنُ بشَّارٍ‏.‏ ومنعَ صحَّةَ ذلكَ قومٌ آخرونَ، وبهِ قَطَعَ الماوَرِديُّ في ‏"‏ الحاوي ‏"‏‏.‏ وقالَ السيفُ الآمديُّ‏:‏ لا يرويهِ إلا بتسليطٍ مِنَ الشَّيْخِ، كقولِهِ‏:‏ فارْوِهِ عَنِّي‏.‏ أو أجزْتُ لكَ روايتَهُ‏.‏ وذهبَ ابنُ القَطَّانِ إلى انقطاعِ الروايةِ بالكتابةِ، قالَهُ عَقبَ حديثِ جابرِ بنِ سَمُرَةَ المذكورِ، وَرَدَّ ذلكَ عليهِ أبو عبدِ اللهِ ابنُ الموَّاقِ‏.‏

537‏.‏ وَيَكْتَفِي أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْتُوْبُ لَهْ *** خَطَّ الَّذِي كَاتَبَهُ وَأَبْطَلَهْ

538‏.‏ قَوْمٌ لِلاشْتِبَاهِ لَكِنْ رُدَّا *** لِنُدْرَةِ اللَّبْسِ وَحَيْثُ أَدَّى

539‏.‏ فَاللَّيْثُ مَعْ مَنْصُوْرٍ اسْتَجَازَا *** ‏(‏أَخْبَرَنَا‏)‏، ‏(‏حَدَّثَنَا‏)‏ جَوَازَا

540‏.‏ وَصَحَّحُوْا التَّقِيْيْدَ بِالْكِتَابَهْ *** وَهْوَ الِذَّي يَلِيْقُ بِالنَّزَاهَهْ

يُكتفى في الروايةِ بالكتابةِ أن يَعْرِفَ المكتوبُ لهُ خطَّ الكاتبِ، وإنْ لم تَقُمْ البَيِّنَةُ عليهِ، ومنهُم مَنْ قالَ‏:‏ الخطُّ يُشْبِهُ الخطَّ، فلا يجوزُ الاعتمادُ على ذلك، قال ابنُ الصلاحِ‏:‏ وهذا غيرُ مرضي؛ لأنَّ ذلك نادرٌ، والظاهرُ أَنَّ خطَّ الإنسانِ لا يَشْتَبِهُ بغيرِهِ، ولا يَقَعُ فيه إِلْبَاسٌ‏.‏ واختلفوا في اللَّفْظِ الذي يُؤدي به مَنْ تحملَ بالكتابةِ‏.‏ فذهبَ غيرُ واحدٍ، منهم‏:‏ الليثُ بنُ سعدٍ، ومنصورٌ، إلى جوازِ إطلاقِ‏:‏ حَدَّثَنا وأخبرنا، والمختارُ الصحيحُ اللائقُ بمذاهبِ أهلِ التحرِي والنَّزَاهةِ، أنْ يُقَيَّدَ ذلكَ بالكتابةِ، فيقول‏:‏ حدَّثَنا أو أخبرنا كتابةً، أو مُكاتبةً، أو كَتَبَ إليَّ، ونحَو ذلك‏.‏ وقالَ الحاكمُ‏:‏ الذي أَخْتَارُهُ وعهدْتُ عليهِ أَكثرَ مشايخي وأَئِمَّةِ عَصْرِي أَنْ يقولَ فيما كَتَبَ إليهِ المحدِّثُ من مدينةٍ، ولم يُشَافِهْهُ بالإجازَةِ‏:‏ كَتَبَ إليَّ فلانٌ‏.‏

السَّاْدِسُ‏:‏ إعْلاَمُ الشَّيْخِ

541‏.‏ وَهَلْ لِمَنْ أَعْلَمَهُ الشَّيْخُ بِمَا *** يَرْوِيْهِ أَنْ يَرْوِيَهُ‏؟‏ فَجَزَمَا

542‏.‏ بِمَنْعِهِ ‏(‏الطُّوْسِيْ‏)‏ وَذَا الْمُخْتَارُ *** وَعِدَّةٌ ‏(‏كَابْنِ جُرَيْجٍ‏)‏ صَارُوْا

543‏.‏ إلى الْجَوَازِ وَ ‏(‏ابْنُ بَكْرٍ‏)‏ نَصَرَهْ *** وَصَاحِبُ الشَّامِلِ جَزْمَاً ذَكَرَهْ

544‏.‏ بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ لَوْ مَنَعَهْ *** لَمْ يَمْتَنِعْ، كَمَا إذا قَدْ سَمِعَهْ

545‏.‏ وَرُدَّ كَاسْتِرْعَاءِ مَنْ يُحَمَّلُ *** لَكِنْ إذا صَحَّ، عَلَيْهِ الْعَمَلُ

القسمُ السادسُ من أقسامِ أَخْذِ الحديثِ وتحمُّلِهِ‏:‏ إعلامُ الشَّيخِ للطالبِ أَنَّ هذا الحديثَ، أو الكتابَ سماعُهُ من فلانٍ، أو روايتُهُ؛ من غيرِ أَنْ يأذنَ لهُ في روايتِهِ عنهُ، وقدِ اختُلِفَ في جوازِ روايتهِ لهُ بمجردِ ذلكَ‏:‏ فذهبَ غيرُ واحدٍ من المحدِّثينَ وغيرِهِم، إلى المنعِ من ذلكَ، وبهِ قَطَعَ أبو حامدٍ الطوسيُّ مِنَ الشَّافِعِيِّيْنَ، ولم يذكرْ غيرَ ذلكَ، فيما حكاهُ ابنُ الصلاحِ عنهُ‏.‏ والظاهرُ أنَّهُ أرادَ بأبي حامدٍ هذا الغزاليَّ، فإنَّهُ كذلكَ في ‏"‏ المستصفى‏"‏، فقالَ‏:‏ أمَّا إذا اقتصرَ على قولِهِ‏:‏ هذا مسمُوعي مِنْ فلانٍ، فلا تجوزُ الروايةُ عنهُ؛ لأَنَّهُ لم يأذنْ في الروايةِ، فلعلَّهُ لا يُجَوِّزُ الروايةَ لخللٍ يعرفُهُ فيهِ، وإنْ سَمِعَهُ‏.‏ انتهى كلامُه‏.‏ وفي الشَّافِعِيِّيْنَ غيرُ واحدٍ يُعْرَفُ بأبي حامدٍ الطّوسيِّ لكنْ لم يَذْكُرْ لهُ مصنفاتٍ ذَكَرَ فيها هذهِ المسألةَ‏.‏ ومَا قالَهُ أبو حامدٍ مِنَ المنعِ، هو المختارُ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ، وقد تقدَّمَ أنَّ مقتضى كلامِ السيفِ الآمديِّ اشتراطُ الإذنِ فيهِ‏.‏ وذهبَ كثيرونَ، منهم‏:‏ ابنُ جريجٍ، وعبيدُ اللهِ العُمَريُّ، وأصحابُهُ المدنيُّونَ، وطوائفُ من المحدِّثينَ، والفقهاءِ والأصوليِّيْنَ والظَّاهِريِّيْنَ، إلى الجوازِ‏.‏ واختارَهُ ونَصَرَهُ الوليدُ بنُ بكرٍ الغَمْريُّ- بفتح الغين المعجمة- في كتابِ ‏"‏ الوِجَازِة ‏"‏ له‏.‏ وبه قطعَ أبو نَصْرٍ ابنُ الصَّبَّاغِ صاحبُ ‏"‏ الشاملِ ‏"‏، وحَكَاهُ القاضي عياضٌ عن الكثيرِ‏.‏ واختارَهُ أبو محمدِ بنُ خَلاَّدٍ الرامَهُرْمُزيُّ، وهوَ مذهبُ عبدِ الملكِ بنِ حبيبٍ من المالكيَّةِ- وهو الذي ذكرهُ صاحبُ ‏"‏ المحصولِ ‏"‏ واتباعه، بل زادَ بعضُهم على هذا، وهو القاضي أبو محمَّدِ بنُ خَلاَّدٍ الرامَهُرْمُزيُّ، فقالَ‏:‏ حَتَّى لو قالَ لهُ‏:‏ هذهِ روايتي، ولكنْ لا تروِها عنِّي، ولا أُجيزُهُ لكَ، لم يضرَّهُ ذلكَ‏.‏ قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ ومَا قالَهُ صحيحٌ لا يقتضي النظرُ سواهُ؛ لأَنَّ مَنْعَهُ أنْ لا يُحَدِّثَ بما حَدَّثَهُ لا لعلةٍ ولا ريبةٍ في الحديثِ لا يُؤَثِّرُ؛ لأَنَّهُ قَدْ حدَّثَهُ، فهو شيءٌ لا يُرْجَعُ فيهِ، وردَّهُ ابنُ الصلاحِ بأنْ قالَ‏:‏ إنَّمَا هذا كالشاهدِ إذا ذَكَرَ في غيرِ مجلسِ الحُكْمِ شهادتَهُ بشيءٍ، فليس لمنْ سمعَهَ أنْ يَشْهَدَ على شهادتهِ، إذا لم يَأذَنْ له ولم يُشْهِدْهُ على شهادتِهِ، قال‏:‏ وذلك مما تساوَتْ فيه الروايةُ والشهادةُ؛ لأَنَّ المعنى يجمعُ بينهما فيهِ، وإنِ افترقتا في غيرِهِ‏.‏ وقالَ القاضي عياضٌ‏:‏ قياسُ مَنْ قاسَ الإذنَ في الحديثِ في هذا الوجهِ وعدمِهِ على الإذنِ في الشهادةِ وعدمِهِ غيرُ صحيحٍ؛ لأَنَّ الشهادةَ على الشهادةِ لا تصحُّ إلاَّ مَعَ الإشْهادِ والإذنِ في كلِّ حالٍ، إلاَّ إذا سَمِعَ أَداءَها عندَ الحاكمِ، ففيهِ اختلافٌ، والحديثُ عن السماعِ والقراءةِ لا يُحتاجُ فيهِ إلى إذْنٍ باتِّفَاقٍ، فهذا يَكْسِرُ عليهم حُجَّتَهُم بالشهادةِ في مسألتِنا هنا، ولا فرقَ‏.‏ وأيضاً فالشهادةُ مُفْترقةٌ مِنَ الروايةِ في أكثرِ الوُجُوْهِ‏.‏ ثم عدَّدَ أشياءَ ممَّا يفترقانِ فيهِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏ورُدَّ‏)‏ أي‏:‏ القولُ بالجوازِ، كمسألةِ استرعاءِ الشاهدِ لِمَنْ يُحَمِّلُهُ شهادتَهُ فلا يكفي إعلامَهُ، بل لابدَّ لهُ أَنْ يأذنَ لهُ أنْ يشهدَ على شهادتهِ، إلاَّ إذا سَمِعَهُ يؤدي عندَ الحاكمِ، كما تقدَّمَ، فهو نظيرُ ما إذا سمعَهُ يُحدِّثُ بالحديثِ فحينئذٍ لا يحتاجُ إلى إذْنِهِ في أن يَرْوِيَهُ عنهُ، ولا يضرُّهُ مَنْعُهُ إذا مَنَعَهُ، وهذا كُلُّه في الروايةِ بإعلامِ الشيخِ‏.‏ أَمَّا العملُ بما أخبرَهُ الشيخُ أنَّهُ سماعُهُ فإنَّهُ يجبُ عليهِ إذا صحَّ إسنادُهُ، كما جزمَ به ابنُ الصلاحِ، وحكاهُ القاضي عياضٌ عن مُحَقِّقِي أصحابِ الأُصولِ‏:‏ أَنَّهُم لا يختلفونَ في وجوبِ العملِ بهِ‏.‏

السَّاْبِعُ‏:‏ الْوَصِيَّةُ بالكِتَاْبِ

546‏.‏ وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ لِلْمُوْصَى لَهُ *** بالْجُزْءِ مِنْ رَاوٍ قَضَى أَجَلَهُ

547‏.‏ يَرْوِيْهِ أَوْ لِسَفَرٍ أَرَادَهْ *** وَرُدَّ مَا لَمْ يُرِدِ الْوِجَادَهْ

القسمُ السابعُ من أقسامِ الأَخْذِ والتَّحَمُّلِ‏:‏ الوصيةُ بالكُتُبِ، بأَنْ يُوصِيَ الراوي بكتابٍ يرويهِ عندَ مَوتِهِ، أو سَفَرِهِ لشخصٍ، فهل له أَنْ يروَيهُ عنهُ بتلكَ الوصيَّةِ‏؟‏ فرَوَى الرامَهُرْمُزِيُّ من روايةِ حَمَّادِ بنِ زيدٍ، عن أيوبَ قالَ‏:‏ قلتُ لمحمدِ بنِ سيرينَ‏:‏ إنَّ فلاناً أَوْصَى لي بكتبهِ، أَفأُحَدِّثُ بِهَا عنهُ‏؟‏ قالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏‏.‏ ثمَّ قالَ لي بعدَ ذلكَ‏:‏ لا آمُرُكَ ولا أنهاكَ‏.‏ قالَ حمَّادٌ‏:‏ وكانَ أبو قِلابةَ قالَ‏:‏ ادفعوا كُتُبي إلى أيوبَ إنْ كانَ حَيَّاً، وإلاّ فاحرقُوهَا‏.‏ وعلَّلَهُ القاضي عياضٌ‏:‏ بأَنَّ في دَفْعِهَا لهُ نَوعاً من الإذْنِ وشَبَهاً من العَرْضِ والمناولةِ‏.‏ قالَ‏:‏ وهو قريبٌ من الضَّرْبِ الذي قبلَهُ‏.‏ قالَ ابنُ الصَّلاَحِ‏:‏ «هذا بعيدٌ جدَّاً وهو إمَّا زَلَّةُ عالِمٍ، أو مُتأوَّلٌ على أَنَّهُ أرادَ الروايةَ على سبيلِ الوِجَادةِ‏.‏ قالَ‏:‏ وإنَّهُ لا يصحُّ تشبيهُهُ بقسمِ الإعلامِ وقسمِ المناولةِ»‏.‏

الثَّاْمِنُ‏:‏ الْوِجَاْدَةُ

548‏.‏ ثُمَّ الوِجَادَةُ وَتِلْكَ مَصْدَرْ *** وَجَدْتُهُ مُوَلَّدَاً لِيَظْهَرْ

549‏.‏ تَغَايُرُ الْمَعْنَى، وَذَاكَ أَنْ تَجِدْ *** بِخَطِّ مَنْ عَاصَرْتَ أَوْ قَبْلُ عُهِدْ

550‏.‏ مَا لَمْ يُحَدِّثْكَ بِهِ وَلَمْ يُجِزْ *** فَقُلْ‏:‏ بِخَطِّهِ وَجَدْتُ، وَاحْتَرِزْ

551‏.‏ إِنْ لَمْ تَثِقْ بِالْخَطِّ قُلْ‏:‏ وَجَدْتُ *** عَنْهُ، أَوْ اذْكُرْ ‏(‏قِيْلَ‏)‏ أَوْ ‏(‏ظَنَنْتُ‏)‏

القسمُ الثامنُ من أقسامِ أَخْذِ الحديثِ وَنقْلِهِ‏:‏ الوِجَادَةُ- بكسر الواو- وهي مصدرٌ مُوَلَّدٌ لِـ ‏(‏وَجَدَ- يَجِدُ‏)‏‏.‏ قالَ الْمُعَافَى بنُ زكريا النَّهْرَوَانيُّ‏:‏ إنَّ المولَّدِينَ فَرَّعُوا قولَهم‏:‏ وِجَادَةً فيما أُخِذَ مِنَ العِلْمِ مِنْ صَحِيْفَةٍ من غيرِ سماعٍ ولا إجازةٍ ولا مُنَاوَلةٍ، من تفريقِ العَرَبِ بين مصادرِ ‏(‏وَجَدَ‏)‏، للتمييزِ بينَ المعاني المختلفةِ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ يعني قولَهم‏:‏ وَجَدَ ضالَّتَهُ وِجْدَاناً، ومطلوبَهُ وُجُوداً، وفي الغَضَبِ‏:‏ مَوْجِدَةً، وفي الغِنى‏:‏ وُجْدَاً، وفي الحُبِّ‏:‏ وَجْداً قلتُ‏:‏ وَلِـ ‏(‏وَجَدَ‏)‏ مصدرانِ آخرانِ، لم يذكرْهُما وهما‏:‏ جِدَةٌ في الغَضَبِ وفي الغنى، وإِجْدَانٌ- بكسرِ الهمزةِ- حَكاهما ابنُ الأعرابيِّ، قالَ ابنُ سِيْدَه‏:‏ وهذا على بَدَلِ الهمزةِ من الواوِ، وليسَ معنى من المعاني التي ذكرَها مقتصراً على مصدرٍ واحدٍ إلاّ في الحُبِّ؛ فإنَّ مصدَرَهُ‏:‏ وَجْدٌ- بالفتح- لا غيرُ كما قالَ ابنُ سِيْدَه‏.‏ وكذلكَ هو مصدرُ‏:‏ وَجَدَ بمعنى حَزِنَ قالَهُ الجوهريُّ وغيرُهُ‏.‏ وأمَّا في المَطْلُوبِ فلهُ مصدرانِ‏:‏ وُجُوْدٌ، ووِجْدانٌ‏.‏ حَكَاهما صاحبُ ‏"‏ المشارقِ ‏"‏‏.‏ وأمَّا في الضَّالةِ فلهُ‏:‏ إجْدَانٌ أيضاً، كمَا تقدَّمَ‏.‏ وأمَّا بمعنى الغَضَبِ، فله مصادرُ‏:‏ مَوْجِدَةٌ وجِدَةٌ ووَجْدٌ-بالفتح- ووِجْدَانٌ، حَكَاها ابنُ سِيْدَه‏.‏ وأمَّا بمعنى الغِنَى، فلَهُ أيضاً مصادرُ أربعةٌ‏:‏ وَُِجْدٌ- مثلَّثُ الواوِ- وَجِدَةٌ، حَكَاها الجوهريُّ وابنُ سِيْدَه‏.‏ وقُرِئَ بالثلاثةِ في قولهِ تعالى‏:‏ ‏{‏ أَسْكِنُوْهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ‏}‏‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وذَاكَ‏)‏ أي‏:‏ والوِجادةُ أن تجدَ بخطِّ مَنْ عاصرْتَهُ- لقيتَهُ أوْ لم تلْقَهُ- أو لم تُعاصِرْهُ، بلْ كانَ قبلَكَ؛ أحاديثَ يرويها، أو غيرَ ذلكَ ممَّا لم تسمَعْهُ منهُ، ولم يُجِزْهُ لكَ، فلكَ أنْ تقولَ‏:‏ وجدْتُ بخطِّ فلانٍ، أخبرنا فلانٌ، وتسوقَ الإسنادَ والمتنَ‏.‏ أو ما وجدْتَهُ بخطِّهِ، أو نحو ذلكَ‏.‏ هذا إذا وَثِقَ بأنَّهُ خطُّهُ، فإِنْ لم يَثِقْ بأنَّهُ خطُّهُ فليحترِزْ عن جَزْمِ العبارةِ بقولِهِ‏:‏ بلغني عَنْ فلانٍ، أو وجدْتُ عنهُ، أو وجدْتُ بخطٍّ قِيْلَ‏:‏ إنَّهُ خطُّ فلانٍ، أو قالَ لي فلانٌ‏:‏ إنَّهُ خطُّ فلانٍ، أو ظننْتُ‏:‏ أنَّهُ خطُّ فلانٍ، أو ذَكَرَ كُنَاتُهُ‏:‏ أنَّهُ فلانُ بنُ فلانٍ، ونحوِ ذلكَ مِنَ العباراتِ الْمُفْصِحَةِ بالْمُستَنَدِ في كونهِ خطَّهِ‏.‏ قلتُ‏:‏ هكذا مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ الوِجادةَ بما إذا لَمْ يكنْ لَهُ إجازةٌ ممَّنْ وَجَدَ ذلكَ بخطِّهِ‏.‏ وقدِ استعملَ غيرُ واحدٍ من أهلِ الحديثِ الوِجادةَ معَ الإجازةِ، وهو واضحٌ كقولِهِ‏:‏ وجدْتُ بخطِّ فلانٍ وأَجَازَهُ لي، وكذلكَ لم يذكرْهُ القاضي عياضٌ في ‏"‏ الإلماعِ ‏"‏ في مثالِ الوِجَادةِ، وإنِّما أرادَ الشيخُ أَنْ يَتَكَلَّمَ على الوِجَادَةِ الخاليةِ عن الإجازةِ، هلْ هيَ مُسْتَنَدٌ صحيحٌ في الروايةِ، أو العملِ‏؟‏ واللهُ اعلمُ‏.‏

552‏.‏ وَكُلُّهُ مُنْقَطِعٌ، وَالأَوَّلُ *** قَدْ شِيْبَ وَصْلاً مَا، وَقَدْ تَسَهَّلُوْا

553‏.‏ فيْهِ ‏(‏بِعَنْ‏)‏، قالَ‏:‏ وَهَذَا دُلْسَهْ *** تَقْبُحُ إِنْ أَوْهَمَ أَنَّ نَفْسَهْ

554‏.‏ حَدَّثَهُ بِهِ، وَبَعْضٌ أَدَّى *** ‏(‏حَدَّثَنَا‏)‏، ‏(‏أَخْبَرَنَا‏)‏ وَرُدَّا

555‏.‏ وَقِيْلَ‏:‏ فِي الْعَمَلِ إِنَّ الْمُعْظَمَا *** لَمْ يَرَهُ، وَبالْوُجُوْبِ جَزَمَا

556‏.‏ بَعْضُ الْمَحُقِّقِيْنَ وَهْوَ الأَصْوَبُ *** وَ‏(‏لاِبْنِ إِدْرِيْسَ‏)‏ الْجَوَازَ نَسَبُوْا

أي‏:‏ وكُلُّ ما ذُكِرَ منَ الرّوايةِ بالوِجادةِ منقطعٌ، سواءٌ وَثِقَ بأنَّهُ خَطُّ مَنْ وَجَدَهُ عنهُ، أَم لا‏.‏ ولكنَّ الأوَّلَ وهو إذا ما وثِقَ بأنَّهُ خطُّهُ أَخَذَ شوباً من الاتصالِ بقولهِ‏:‏ وجدْتُ بخطِّ فلانٍ، وقد تَسَهَّلَ مَنْ أَتى بلفظةِ‏:‏ «عَنْ فلانٍ» في موضعِ الوِجادةِ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وذلكَ تَدْلِيْسٌ قبيحٌ، إذا كانَ بحيثُ يُوهِمُ سماعَهُ منه على ما سبقَ في نوعِ التدليسِ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏أَنَّ نَفْسَهْ‏)‏ أي‏:‏ نَفْسَ مَنْ وَجَدَ ذلكَ بخطِّهِ حدَّثَهُ بِهِ‏.‏ وجازَفَ بعضُهُمْ فأطْلَقَ في الوِجادةِ‏:‏ حَدَّثَنَا وأخبرنا، وانتُقِدَ ذلكَ على فاعِلِه، قالَ القاضي عياضٌ‏:‏ لا أعْلَمُ مَنْ يُقْتَدَى بهِ أجازَ النقلَ فيهِ بـ‏:‏ حَدَّثَنَا، وأخبرنا، ولا مَنْ يَعُدُّهُ مَعَدَّ المُسْنَدِ‏.‏ انتهى‏.‏

هذا الحكمُ في الروايةِ بالوِجادةِ، وأَمّا العملُ بها، فقالَ القاضي عياضٌ‏:‏ اختلفَ أَئمةُ الحديثِ والفِقْهِ والأُصولِ فيهِ، مع اتفاقِهِم على مَنْعِ النَّقْلِ، والروايةِ بهِ، فمعظُمُ المحدِّثينَ والفقهاءِ من المالكيةِ وغيرِهم، لا يَرَوْنَ العملَ بهِ، قالَ‏:‏ وحُكِيَ عن الشافعيِّ- رحمهُ اللهُ- جوازُ العملِ بهِ، وقالَتْ بهِ طائفةٌ مِنْ نُظَّارِ أَصحابهِ، قالَ‏:‏ وهوَ الذي نصرَهُ الْجُوينيُّ وَاخْتَارَهُ غيرُهُ مِن أربابِ التحقيقِ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ قطعَ بعضُ المحقِّقِينَ من أصحابهِ في أُصولِ الفِقْهِ بوجوبِ العملِ بهِ عندَ حصولِ الثقةِ بهِ، وقالَ‏:‏ لو عُرِضَ ما ذكرناهُ على جُملةِ المحدِّثينَ لأَبَوْهُ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وما قطعَ بهِ هوَ الذي لا يَتَّجِهُ غيرُهُ في الأعصارِ المتأخِّرةِ، وقالَ النوويُّ‏:‏ هذا هو الصحيحُ‏.‏

557‏.‏ وَإِنْ يَكُنْ بِغَيْرِ خَطّهِ فَقُلْ‏:‏ *** ‏(‏قالَ‏)‏ وَنَحْوَهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ

558‏.‏ بِالنُّسْخَةِ الْوُثُوْقُ قُلْ‏:‏ ‏(‏بَلَغَنِيْ‏)‏ *** وَالْجَزْمُ يُرْجَى حِلُّهُ لِلْفَطِنِ

إذا أردْتَ نقلَ شَيءٍ من كتابٍ مُصَنَّفٍ، فإنْ كانتِ النُّسْخَةُ بخطِّ المُصَنِّفِ، وَوَثِقْتَ بأَنَّهُ خطُّهُ، فقُلْ‏:‏ وجدْتُ بخطِّ فلانٍ، واحْكِ كلامَهُ، كما تَقدَّمَ‏.‏ وإنْ كانتْ بغيرِ خطِّ المُصَنِّفِ، فإنْ وَثِقْتَ بصِحَّةِ النسخةِ بأَنْ قابلَها المُصَنِّفُ، أو ثقةٌ غيرُهُ بالأَصلِ، أو بفرعٍ مُقَابَلٍ على ما تقدَّمَ؛ فقُلُ‏:‏ قالَ فلانٌ، أو ذَكَرَ فلانٌ، ونحوَ ذلكَ مِنْ أَلفاظِ الجزمِ‏.‏ وإنْ لَمْ تَثِقْ بصحَّةِ النسخةِ فقُلْ‏:‏ بلغني عن فلانٍ، أو‏:‏ وجدْتُ في نسخةٍ من الكتابِ الفلانيِّ، ونحوَ ذلكَ مِمَّا لا يقتضي الجزمَ‏.‏ قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ فإنْ كانَ المطالِعُ عالماً فطناً بحيثُ لا يخفى عليهِ في الغالِبِ مواضعُ الإسقاطِ والسَّقَطِ، أَو ما أُحِيْلَ عَنْ جِهَتِهِ مِنْ غيرِها رجونا أَنْ يجوزَ له إطلاقُ اللَّفْظِ الجازِمِ فيما يحكيهِ من ذلكَ‏.‏ قالَ‏:‏ وإلى هذا فيما أَحسَبُ استروَحَ كثيرٌ من المصنِّفِينَ فيما نقلوهُ من كُتُبِ الناسِ، والعِلْمُ عندَ اللهِ تعالى‏.‏